بقلم: بودرع ياسر انخفاض أسعار النفط إلى ما دون 60 دولارا للبرميل هو ما لم يكن يتوقعه أي خبير اقتصادي أو سياسي قبل أشهر قليلة بلغ فيها سعر البرميل حدود 120 دولارا، هذا الانخفاض الذي جاء مخالفا للمنطق والتوقعات أحدث حالة طوارئ في البورصات العالمية وخلق رعبا في الأوساط السياسية والاقتصادية وحتى الشعبية لدى الدول المنتجة للنفط، ولا حديث يعلوا هذه الأيام فوق الحديث عن أسعار النفط فالجميع يخوض في الأسباب والخلفيات والأبعاد والانعكاسات في وقت ساد فيه انطباع وتوقع بطول أزمة انخفاض أسعار النفط ! رغم التبريرات الاقتصادية الموضوعية التي سوقتها السعودية لتوضيح موقفها من الإبقاء على إنتاج منظمة أوبك كما هو عليه الآن فإن التفسيرات الجيوستراتيجية التي طفت على السطح تبدو أكثر إقناعا، فالسعودية تريد إلحاق ضرر اقتصادي بإيران التي يتعاظم نفوذها في المنطقة عاما بعد آخر وصارت تمتلك مفاتيح هامة تحرك بها خيوط اللعبة في عدة دول عربية في الشرق الأوسط، كما تسير بخطى ثابتة نحو تحقيق مشروعها عبر التقارب مع الغرب بشأن ملفها النووي، والسعودية هنا تريد أن تقوم برد فعل يمنع انقلاب موازين القوى في الشرق الأوسط لصالح إيران التي تستمر في دعمها ل(بشار الأسد)، والأزمة السورية على علاقة مباشرة بانخفاض أسعار النفط حيث أن سرعة انهيار أسعاره هذه الأيام مشابهة تماما لسرعة تهاوي البراميل المتفجرة التي يلقيها النظام السوري على المدن التي يوجد بها معارضوه، فنظام الأسد المدعوم من إيرانوروسيا مغضوب عليه في السعودية وأمريكا، بصمة هذه الأخيرة واضحة على القرار السعودي لدفع أسعار النفط نحو التهاوي لتصفية حساباتها مع روسيا أيضا وهذه حقيقة واضحة أكدها سياسيون أمريكيون أنفسهم كانوا قد أشاروا إلى ذلك بما فيهم الرئيس أوباما الذي لم يخف ارتياحه لانخفاض أسعار النفط، ويأتي ذلك على خلفية الأزمة الروسية الأمريكية التي بدأت منذ وصول حكومة موالية للتوجهات الغربية في أوكرانيا ما دفع بروسيا إلى ضم القرم ودعمها للانفصاليين في شرق أوكرانيا لتبدأ الولاياتالمتحدةالأمريكية جولة من الحصار الاقتصادي على ضدها، وخفض أسعار النفط ما هو إلا خطوة في ذات الإطار، فمن المنطقي أن خلق أزمة اقتصادية عبر خفض أسعار النفط سيؤدي إلى خنق نظام بوتين الذي أبدى صلابة كبيرة في الدفاع عن مواقفه ومصالحه الإستراتيجية، التوتر الروسي الأمريكي بشكله الحالي يبقي باب الحماقات غير المتوقعة مفتوحا ولا أحد في العالم مستعد لفتح باب حرب عالمية جديدة تستخدم فيها أسلحة نووية لذلك نلحظ حذرا غربيا في التعامل مع الدب الروسي، وهي الإشارات التي لم تتردد المستشارة الألمانية ميركل في إرسالها إلى حليفتها أمريكا مفادها أن أوروبا لم تعد مستعدة لدفع ثمن النزاعات الأمريكية، ومن الواضح أن تصعيد التوتر الغربي الروسي لن يكون في مصلحة أحد والجميع يدرك أن روسيا اليوم ليست الاتحاد السوفييتي سابقا لذلك من غير المستبعد أن يكون هناك انفراج ولو نسبي في العلاقات وربما تبدأ روسيا أول خطوة من خلال تحريك الملف السوري من مرحلة الجمود، وفي حالة حصول أي انفراج في العلاقات الأمريكية الروسية قد تصاب السعودية مرة أخرى بخيبة أمل من حليفتها أمريكا التي كلفتها خيبات أمل كثيرة في السنوات الأخيرة ! * السياسة النفطية السعودية من الدول الغنية والتي تريد أن تبقى كذلك وقد بنت ثروتها من عائدات النفط لعقود، وثروتها ورفاهها الاجتماعي سيتأثر إذا بقي سعر النفط منخفضا لستة أشهر أو عام، بالرغم من أنها تملك مداخيل هائلة من السياحة الدينية غير أنها كبقية دول الخليج الغنية لا تعد دولا صناعية وهي بعيدة أيضا عن تحقيق أمنها الغذائي ولا تحوز على قطاعات استثمارية تحقق لها مداخيل كبيرة من شأنها أن تحل محل ريع النفط، ومن الواضح أن دول الخليج النفطية مع كل دول أوبك في سلة واحدة إذ ستعاني هذه الدول من ضغط انخفاض أسعار النفط وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة نتيجة استحقاقات موازناتها ونفقاتها الاجتماعية المتزايدة، وفي ظل هذا الانخفاض فإن تأثر الإنفاق الحكومي يعد حتمية ما لم تقم هذه الدول بخطوة عكسية للدفع بأسعار النفط نحو الارتفاع مجددا، وإذا لم تفعل فإنها ستكتفي بكل تأكيد في مشاهدة احتياطات صرفها من العملة الصعبة وهي تتآكل بعد أن فشلت في استغلالها كما يجب أيام الراحة المالية لتحقيق دفعة تنموية وتنويع اقتصادها، وحتى عمليات الحفر والتنقيب في مجال النفط ستتضرر جراء هذا التراجع الكبير للأسعار وكلها إشارات تهدد الاستقرار الاقتصادي في الدول النفطية بما فيها دول الخليج التي تريد الابتعاد عن أي تململ اجتماعي في دولها خاصة في الوقت الراهن الذي ترزح فيه كثير من الدول العربية تحت رحمة الفوضى بسبب تأثيرات الربيع العربي الذي كانت انطلاقته لعوامل اجتماعية انتهت إلى فوضى كبيرة يشهدها العالم العربي تحوّلت اليوم إلى تهديدات أمنية طالت الجميع. إن البطء الذي يميز عملية تطوير النفط الصخري في الولاياتالمتحدةالأمريكية نتيجة تكلفته العالية إضافة إلى ارتفاع متوقع في الطلب المتزايد للسوق العالمية على النفط خاصة في الصين ومع الأخذ بعين الاعتبار أن النفط من الثروات التي تنفذ وترتفع قيمتها بمرور الزمن فإن كل المؤشرات تصب في خانة توقع ارتفاع أسعار النفط مجددا وبمعدلات خيالية إذا ما قررت منظمة أوبك اتخاذ خطوة في هذا الطريق بخفض الإنتاج لمنع امتلاء وتشبع المخزونات العالمية من النفط، وهذا لن يحدث إلا إذا تخلت السعودية عن إستراتيجيتها الجديدة التي تحمل في طياتها مخاطرة كبيرة وقد تجد نفسها الخاسر الأكبر سياسيا واقتصاديا إلى جانب دول عربية بعد أن أظهرت إيران قدرتها على التكيف مع عقوبات اقتصادية قاسية لأكثر من 30 سنة وروسيا بدورها تملك إمكانيات تقوية اقتصادها والخروج من التبعية للمحروقات خاصة مع بداية بحثها عن بدائل كتركيزها على تطوير تعاونها الاقتصادي مع الصين، روسيا دولة تملك مؤهلات تقنية كبيرة وقاعدة صناعية لا يستهان بها خاصة ما تعلق بصناعة السلاح ورغم ذلك اعتبرت انخفاض أسعار النفط تهديدا لاقتصادها وأمنها القومي بينما تحاول بعض الدول الخليجية أن تقلل من آثار هذا الانخفاض على اقتصادياتها ورفاهها الاجتماعي ! وبعيدا عن مقارنة التعداد السكاني بين كل من روسيا والدول الخليجية النفطية فإن الأخيرة قد افتقدت المنطق الاقتصادي والعقلاني في تبني إستراتيجيتها الحالية التي لا أتوقع لها أن تصمد أكثر من ستة أشهر أو عام كحد أقصى !