عندما نزل الوحي اشتعلت أرجاء السماء حممًا ولهيبًا وشررًا يفتك برؤوس الشرك ومصانع الخرافة والضلال، شياطين الجن الذين أرهقوا بعض البشر ودحرجوهم للحضيض، كانوا (يصعدون إلى السماء يستمعون الوحي، فإذا حفظوا الكلمة زادوا فيها تسعًا، فأما الكلمة فتكون حقًا، وأما ما زادوا فتكون باطلًا). فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم مُنعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك، فقال لهم إبليس: هذا لأمر قد حدث في الأرض. فبعث جنوده، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا يصلي بين جبلين، فأتوه، فأخبروه. فقال: (هذا الأمر الذي حدث في الأرض). إن الله قد وهب الجن قدرات لكن منهم شياطين أساؤوا استغلالها، جعلوا يسترقون السمع، ثم يلقون ما استمعوه في بركة من الكذب، ثم يسقونها الكهان الذين يتصلون بهم ويتقربون إليهم، فزادوهم رهقًا وتخويفًا، وجعلوهم يرتكسون في الشرك والشعوذة، والجن قبائل منهم الصالحون ومنهم الفاسدون. (ولم تكن قبيلة من الجن إلا ولهم مقاعد للسمع، فإذا نزل الوحي سمعت الملائكة صوتًا كصوت الحديدة ألقيتها على الصفا. فإذا سمعت الملائكة خروا سجدًا، فلم يرفعوا رؤوسهم حتى ينزل، فإذا نزل قال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم؟ فإن كان مما يكون في السماء، قالوا: الحق، وهو العلي الكبير. وإن كان مما يكون في الأرض من أمر الغيب، أو موت، أو شيء مما يكون في الأرض تكلموا به فقالوا: يكون كذا وكذا، فتسمعه الشياطين، فينزلونه على أوليائهم. فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم دحروا بالنجوم، فكان أول من علم بها ثقيف، فكان ذو الغنم منهم ينطلق إلى غنمه، فيذبح كل يوم شاة، وذو الإبل فينحر كل يوم بعيرًا، فأسرع الناس في أموالهم، فقال بعضهم لبعض: لا تفعلوا، فإن كانت النجوم التي يهتدون بها، وإلا فإنه لأمر حدث. فنظروا فإذا النجوم التي يهتدى بها كما هي لم يزل منها شيء، فكفوا، وصرف الله الجن، فسمعوا القرآن، فلما حضروه قالوا: أنصتوا، وانطلقت الشياطين إلى إبليس فأخبروه، فقال: هذا حدثٌ حدثَ في الأرض، فأتوني من كل أرض بتربة، فأتوه بتربة، فقال: ها هنا الحدث) []. كاهن وجنية وهذه قصة أخرى يرويها ويروي مثلها رجل من رموز قريش وأقويائها وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه في يوم بعثته صلى الله عليه وسلم كان لأحد الكهان ارتباطه مع جنية، يتحدث الكاهن إلى عمر بن الخطاب عنها وعن فزعها في ذلك اليوم العظيم فيقول: بينما أنا يومًا في السوق، جاءتني، أعرف فيها الفزع، فقالت: أَلَمْ تَرَ الْجِنَّ وإِبْلَاسَهَا وَيَأْسَهَا مِنْ بَعْدِ إِنْكَاسِهَا وَلُحُوقَهَا بِالْقِلَاصِ وَأَحْلَاسِهَا فقال عمر رضي الله عنه: صدق بينما أنا عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل، فذبحه، فصرخ به صارخ لم أسمع صارخًا قط أشد صوتًا منه، يقول: يَا جَلِيحْ .. أَمْر نَجِيحْ .. رَجُلٌ فَصيحْ .. يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله. فوثب القوم فقلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يَا جَلِيحْ .. أَمْر نَجِيحْ .. رَجُلٌ فَصيحْ .. يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله، فقمت، فما نَشِبْنَا (لبثنا) أن قيل: هذا نبي)، لقد ثار الجن، واضطربوا وحاروا، وضاقت الأرض بهم والسماء، وأمسى شبح المستقبل يتهادى خلف دخان الشهب الحارقة، كالجريح يترنح بين آثار القنابل، لقد أمسى مستقبل الشياطين مخيفًا مرعبًا مجهولًا بعد نزول القرآن، بعد بعثة هذا النبي صلى الله عليه وسلم[]. حراسة السماء من استراق السمع بالمبعث الشريف قال الله تعالى فيما أخبر عن الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 8 - 9]، روى أبو نعيم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال خريم بن فاتك لعمر بن الخطاب: ألا أخبرك ببدء إسلامي؟ بينا أنا في طلب نَعَم لي، إذ جن الليل بأبرق العزاف، فناديت بأعلى صوتي: أعوذ بعزيز هذا الوادي من سفهائه، وإذا هاتف يهتف بي فقال: عُذْ يَا فَتَى بِاللَّهِ ذِي الْجَلَالِ *** وَالْمَجْدِ وَالنَّعْمَاءِ وَالْأَفْضَالِ وَاقْرَأْ بِآيَاتٍ مِنَ الْأَنْفَالِ *** وَوَحِّدِ اللَّهَ وَلَا تُبَالِ قال: فارتعت من ذلك روعا شديدا فلما رجعت إلى نفسي قلت: يَا أَيُّهَا الْهَاتِفُ مَا تَقُولُ *** أَرُشْدٌ عِنْدَكَ أَمْ تَضْلِيلُ بَيِّنْ لَنَا هُدِيتَ مَا الْعَوِيلُ فقال: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ ذُو الْخَيْرَاتِ *** يَدْعُو إِلَى الْخَيْرَاتِ وَالنَّجَاةِ يَأْمُرُ بِالصَّوْمِ وَبِالصَّلَاةِ *** وَيَزَعُ النَّاسَ عَنِ الْهَنَاتِ قال: فَأَتْبَعْتُ راحلتي، وقلت: أَرْشِدْنِي رُشْدًا بِهَا هُدِيتَا *** لَا جُعْتَ يَا هَذَا، وَلَا عُرِيتَا وَلَا صَحِبْتَ صَاحِبًا مَقِيتَا *** لَا يَثْوِيَنَّ الْخَيْرُ إِنْ ثُوِيتَا قال: فَأَتْبَعَنِي، وهو يقول: صَاحَبَكَ اللَّهُ وَسَلَّمَ نَفْسَكَا *** وَبَلَّغَ الْأَهْلَ وَسَلَّمَ رَحْلَكَا آمِنْ بِهِ أَفْلَحَ رَبِّي حَقَّكَا *** وَانْصُرْ نَبِيًّا عَزَّ رَبِّي نَصْرَكَا قال: فدخلت المدينة فطلعت في المسجد، فخرج إلي أبو بكر فقال: ادخل رحمك الله فقد بلغنا إسلامك، فقلت: لا أحسن الطهور، فعُلِّمت، ودخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر كأنه البدر وهو يقول: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ تَوَضَّأَ، فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ صَلَّى صَلَاةً يَعْقِلُهَا، يَحْفَظُهَا، إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ). فقال عمر: لتأتيني على هذا بينة أو لأنكلن بك، قال: فشهد له شويخ قريش عثمان بن عفان، فأجاز شهادته. وروى أبو نعيم بسنده عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: خرجنا في عير إلى الشام قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كنا بأفواه الشام وبها كاهنة فتعرضنا لها، فقال: أتاني صاحبي فوقف على بابي فقلت: ألا تدخل؟ فقال: لا سبيل إلى ذلك، خرج أحمد، وجاء أمر لا يطاق. ثم انصرفتُ فرجعت إلى مكة فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج بمكة يدعو إلى الله عز وجل. قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم أن امرأة من بني سهم، يقال لها الْغَيْطَلَةُ كانت كاهنة في الجاهلية، فلما جاءها صاحبها في ليلة من الليالي فأنقض تحتها ثم قال: أَدْرِ مَا أَدْرِ (في رواية: وَمَا بدر)، يَوْمَ عَقْرٍ وَنَحْرٍ، قالت قريش -حين بلغها ذلك-: ما يريد؟ ثم جاءها ليلة أخرى، فأنقض تحتها، ثم قال: شُعُوبُ مَا شُعُوبٌ، تُصْرَعُ فِيهِ كَعْبٌ لَجُوبُ، فلما بلغ ذلك قريشا قالوا: ماذا يريد؟ إن هذا لأمر هو كائن، فانظروا ما هو؟ فما عرفوه حتى كانت وقعة بدر وأحد بِالشِّعْبِ؛ فعرفوا أنه الذي كان جاء به إلى صاحبته []. وروى ابن سعد بسنده عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: كنا جلوسا عند صنم ببوانة قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهر، فنحرنا جزورًا، فإذا صائح يصيح من جوف واحده: (اسْمَعُوا إِلَى الْعَجَبِ، ذَهَبَ اسْتِرَاقُ الْوَحْيِ، وَنُرْمَى بِالشُّهُبِ لِنَبِيٍّ بِمَكَّةَ، اسْمُهُ أَحْمَدُ مُهَاجَرُهُ إِلَى يَثْرِبَ). قال: فأمسكنا وعجبنا، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى ابن سعد بسنده عن الزهري رحمه الله قال: كان الوحي يستمع، وكان لامرأة من بني أسد تابع فأتاها يوما وهو يصيح: جَاءَ أَمْرٌ لَا يُطَاقُ، أَحْمَدُ حَرَّمَ الزِّنَا، فلما جاء الله بالإِسلام مُنِعُوا الاستماع