ثمّن الدكتور عبد الحميد نجار، وهو مفكّر تونسي إسلامي عالمي حاصل على شهادة الدكتوراه في العقيدة والفلسفة من جامعة الأزهر، عضو هيئة التدريس بجامعة الزيتونة ونائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين والأمين العام المساعد للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، الربيع العربي في تونس من خلال الحوار الذي خص به (أخبار اليوم) التي التقته على هامش (ملتقى الشيخين) المنظم قبل أيام من قِبل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، كما عبر عن تفاؤله بمستقبل (تونس الخضراء). حاورته: عتيقة مغوفل * ما رأيكم أستاذ في ملتقى الشيخين المنظم من طرف جمعية العلماء المسلمين؟ *** ملتقى الشيخين ملتقى على درجة كبيرة من الأهمية، سواء نظرنا إليه في موضوعه أو نظرنا إليه في الظرف الزمني الذي عقد فيه وهو ظرف نتاجه كشعوب عربية إسلامية لنستلهم الدروس في سبيل أن نأخذ طريقنا إلى النهضة الحديثة، خصوصا وأننا نرصد التخلف في مجالات عديدة، أما من حيث المضامين فهو يطرح علينا تجربة فذة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي أسسها الشيخان البشير الإبراهيمي وعبد الحميد ابن باديس، وقد كانت هذه التجربة رائدة وفذة تمتاز بخصائص قد لا نجدها في الكثير من الحركات الإصلاحية الأخرى نذكر منها الثقافة الشعبية الدينية بتوجيه من الشيخين، إذ اعتمدت هذه الجمعية على أن تبث ثقافتها الاجتماعية والدينية والثقافية في الأوساط الاجتماعية على أوسع نطاق ممكن ولم تكتف فقط بتوجيه نشاطها للنخبة فقط رغم أنه من المهم توجيه الخطاب للنخبة، لكن لا يكفي الاقتصار عليها لأنه من يصنع الحضارة عمليا وفي الميدان هو الشعب، فإذا لم نرب الشعب فإن الآراء التي تنتجها النخبة رغم أهميتها تذهب في مهب الريح. الأمر الثاني أن الجمعية اعتمدت في توعيتها للناس على أمرين يجب أن يكونا متلازمين، الأمر الأول تصحيح الفكر بالتربية العقلية حتى يصبح الناس يفكرون تفكيرا سليما بنزع الخرافات والخزعبلات وتركيب العقل على التفكير الصحيح ليصل إلى الحقيقة، الأمر الثاني وهي التربية الإرادية، أي أن يقع تحرير إرادة الفرد وإرادة الشعب من مكبلات العدالة والمكبلات السياسية أو مكبلات الطرقية فتصبح للفرد المسلم إرادة حرة وقوية لأنه يمكن أن يصل العقل إلى الأفكار والحقائق وإلى المشاريع الصحيحة ولا تكون له إرادة حرة للعمل، لأن الإرادة الحقيقة هي التي تدفع إلى العمل. فالجمعية بتوجيه الشيخين جمعت بين الأمرين في الكثير من كتابتها. الأمر الثالث هو اعتماد التنظيم الحركي لأن الجمعية كانت تنظيما دقيقا انتشر في جميع أرجاء البلاد الجزائرية، فقد أنشأت أزيد من 400 مدرسة، أما الخلية التي تفرعت عن المركز فهي كثيرة، فهذا التنظيم ساعد كثيرا في انتشار آراء الجمعية بين الناس لأن للمصلحين آراء مهمة لا تجد مقومات تمر منها على الناس وتنحصر فقط بين تلاميذهم، لذلك أرى أن هذه الخصائص الثلاثة مهمة جدا قام بها الشيخان ونحن بحاجة إليها في زماننا حتى نتفهمها ونأخذ منها ونستفيد منها. وقد شاركت في الملتقى بموضوع (استراتيجية التحرر السياسي عند الإمامين) وقد استلهمته من الحكمة التي أبان عنها الشيخان لأنهما تأملا في مقاومة الاستعمار الفرنسي وغيرهما من البلاد، وقد كانت هناك مقاومات منذ أن دخل الاستعمار إلى الجزائر فردية وجماعية كمقاومة الأمير عبد القادر وفاطمة نسومر وغيرها من المقاومات عديدة، لكنها لم تفلح في دحر الاستعمار، فتأمل الشيخان في الموضوع فوجدا استراتيجية أخرى تناقشا فيها في المدينة المنوّرة طيلة ثلاثة أشهر واستقرت الخطة في الأذهان. وقد كانت مقاومة القابلية للاستعمار للانتقال منها إلى الكفاح المسلح، لأن الشعب لم يفلح في إخراج الاستعمار بالمقاومات الشعبية، لأنه لم تكن هناك قابلية لذلك بسبب التفكير الخرافي والخزعبلات التي كانت سائدة في المجتمع آنذاك، هذا كله جعلا الشيخين يضعان خطة لتوعية الشعب وتوعية الإرادة وتمييز الشخصية حتى يصبح هذا الشعب قويا ويفكر بإرادته وشخصيته فتزول قابلية الاستعمار. وقد كرّس الشيخان حياتهما في ذلك وقد نجحا فيه، فبعد 30 سنة قامت الثورة فوجدت حاضنة اجتماعية وضعف الاستعمار، فجمعية العلماء كان لها دور كبير في نيل الاستقلال الذي تنعم به البلاد إلى يومنا هذا. * لو نتكلم عن دور جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في وقتنا الحالي وفي الظروف السياسية الراهنة، خصوصا وأن هناك الكثير من الأصوات التي تقول إن دور الجمعية تلاشى، فما ردكم على هذا؟ *** لا شك أن الانقطاع الطويل للجمعية التي أوقفت في الستينيات ورجعت في السنوات الأخيرة فقط أثر عليها كثيرا، لكن مجرد رجوعها الآن هو إيجابي حتى لو أنها لم تبلغ ما بلغته من قبل، إلا أنها في تقدم دائم وأعتقد أنها ستجمع مستقبلا العديد من التلاميذ وتكوّنهم وتكون عامل نهضة حضارية مثلما كانت في الأول إن شاء اللّه. * رغم كل ما قدمه الشيخان إلا أن هناك بعض المفكرين في السنوات الأخيرة يعتبرون أن نهضتهما غير صالحة في زماننا هذا، بل أوجدوا فيها سلبيات... *** لا أوافق هؤلاء في وجهة النظر هذه، بل أعتقد أنهما كانا متقدمين علينا الآن، فهما لديهما الحكمة والبحث عن أسباب التخلف ومحاولة معالجتها من جذورها ليس من الجانب السطحي فقط، لذلك لما نقرأ ما كتب كل منهما نجد أفكارا عظيمة جدا، بطبيعة الحل هناك الكثير من الأفكار اليوم نتعلم منها المنهجية والطرق وكثير من الأفكار لا نستطيع أن نتخلى عنها في ظروفنا الراهنة، فلا غنى لنا عما قام به الشيخان في الجمعية. * كيف تجدون انعكاس نهضة الشيخين على المغرب العربي؟ *** لا شك أن عبد الحميد ابن باديس له صيت كبير في العالم العربي والشيخ البشير الإبراهيمي كذلك، خاصة وأنه سافر واستقر في مصر وهم يذكرونه دوما بخير ويقرأون ما كتب ويحترمونه ويحترمون الجمعية كثيرا، لكن الظرف الذي نشأت فيه لم يجعلها تنتشر الانتشار اللائق بها كما انتشرت باقي الحركات العربية، وفي المنطقة المغاربة كانت لتجربة الشيخين صدى كبيرا والكثير من الناس كتبوا عنها، لذلك أنا أطالب بأن يكون ملتقى الشيخين ملتقى سنويا حتى نعرف بهما للجيل الجديد الذي أصبح جيل أنترنت فقط للأسف. * لو نتكلم اليوم عن الحراك السياسي الواقع في المنطقة العربية وعن الربيع العربي كيف تقيّمون تجربة تونس في هذا الحقل؟ *** الوضع صعب جدا، فأكثر من ستين عاما والدولة الحديثة في الوطن العربي الحكم فيها يستبد بالشعوب، فالحكم فيها يمارس الاستبداد والقهر لما قامت ثورة الربيع العربي وهي ثورة حقيقة بغض النظر عما شابها من بعض الخلل، إذا ما قيست على تونس التي أعرفها جيدا وهي بلدي فإنني أرى أن الشعب تونسي تحرر من كبوس جثم على صدره خلال الستين سنة الماضية، خصوصا في الخمس والعشرين سنة الأخيرة، وهي فترة استبداد وظلم، لكن في المدة التي بقي فيها الاستبداد تكونت طبقات اعتقدت كانت جيوب الاستبداد وهي التي شكلت ثورة مضادة كانت شرسة للغاية وعملت على أن تعود بالأمر إلى ما كان عليه وقد عادت في بعض البلاد، ففي تونس نجحت نجاحا ضعيفا ولم تنجح بصفة عامة، والحمد اللّه الآن مسار الديمقراطية يتدرج شيئا فشيئا ويعمل على ألا تكون هناك رجعة إلى عهد الاستبداد. * كيف تنظرون أستاذ إلى مستقبل تونس؟ *** أنظر إلى مستقبل تونس بتفاؤل كبير، فرغم وجود مشاكل إلا أنني أجد أنها ظرفية وسيأخذ المسار الديمقراطي طريقه إلى النجاح بالتأكيد حتى ينهض الشعب ويأخذ طريقه في الحرية والخيار الشعبي رغم وجود بعض العثرات اليوم، والتي توجد في كامل الدول العربية.