بقلم: سعدون يخلف * المواطن العربي المغبون حلم ب (غد أفضل غد يتنسم فيه نسمات الحرية ويعيش تحت ظلال القانون الوارفة ويشعر بأنه مواطن في دول العزة والكرامة). هذا ما حلم به أي مواطن.. حلم عاشه للحظات عندما رفع التونسي صوته في وجه العقيد زين العابدين بن علي وقال له: (ارحل) بعد أن قدم محمد البوعزيزي جسده الطري قرباناً على مذبح الحرية وتعمّق هذا الحلم أكثر بعد أن تخلّص الشعب المصري من الديكتاتورية الغاشمة التي كان يجسدها حسني مبارك بعد ثورة يناير المباركة ثورة سلمية وقف لها العدو قبل الصديق وقفة إجلال وإكبار بعد ذلك لم تبخل الشعوب الأخرى وصدعت بأعلى صوتها (الشعب يريد إسقاط النظام) فثار الشعب اليمني والليبي والسوري.. وإن استطاع الشعب اليمني أن يتخلّص من نظام صالح بأقل الخسائر فإن الشعب الليبي دفع ثمناً باهضاً فغطرسة القذافي وجنونه أدى إلى جلب الناتو ولم يرحل القذافي ونظامه إلا بعد أن دُمرت ليبيا وسالت دماء غزيرة أما الشعب السوري العظيم فما زال يقاوم الديكتاتور الذي قال (أنا وبعدي الطوفان) خاصة بعد أن تلقى الدعم السخي من إيران وعملائها في المنطقة وضمن سكوت الغرب الذي يريد سوريا مدمرة ضعيفة حتى تمرح إسرائيل وتلعب كيفما تشاء. لقد أشاع أهل الاستبداد في المنطقة لسنوات طويلة مقولة مفادها أن الشعوب العربية ليس لها من خيار فهي إما ترضى بهذا الوضع وتعيش حياة العبودية وإما تثور وتتحمل تبعات ذلك ولعل أفدح التبعات هذه هو عودة الاستعمار بمعنى آخر إما أن تتركونا نتحكم في رقابكم فتتنعمون بالأمن والاستقرار أو ستكون الفوضى والدمار ما ينتظركم ويتناسى هؤلاء بأنه حتى العبيد لهم خيار وخيارهم العبودية أو الموت أي بين أن يرضوا بحياة الرق والاستعباد والاستغلال أو أن يثوروا من أجل حياة كريمة وعزيزة ربما يكون المصير الأغلب الذي ينتظر من تحدى وتجرأ على الذات الحاكمة الموت. أوباش و جراثيم لذلك لما انتفضت هذه الشعوب وصدحت بأعلى صوتها نريد أن نعيش حياة كبقية خلق الله في الشرق والغرب غضب أهل الحكم وامتعضوا من ذلك وقالوا في قرارة أنفسهم كيف يتجرأ هؤلاء العبيد.. هؤلاء الأوغاد والأوباش والكل يتذكر الكلمات الجديدة التي خاطب به هؤلاء شعوبهم إنهم (عيال) قال الأول وقال الثاني إنهم (جرذان) أما الآخر فنعتهم ب (الجراثيم)... هذا إن دل على شيء فإنما يدل على نظرة هذا الحاكم أو ذاك إلى شعبه فهو أي الحاكم ما زال يعيش في عصر القبيلة التي تتعامل مع رعاياها بمنطق السيد والعبد أو الخادم. وحتى أذكّر من ذاكرته ضعيفة وينسى بسرعة أو يريد أن يتناسى حتى يتحرر من وطأة تأنيب الضمير لأن (النسيان شكل من أشكل التحرر) كما قال جبران خليل جبران أذكّره عندما بدأت تحقق الثورات العربية أهدافها الأولى وبدأت رؤوس النظام تتساقط الواحدة تلو الأخرى الكل صار يتحدث عن الربيع وفتوحاته في تونس ومصر واليمن وليبيا والكل يتحدث عن الحرية والديمقراطية وعن دول الحقوق والحريات وعن مشاريع البناء والتنمية وعن بطولات الشعوب وعظمتها وعندما مال النصر إلى جناح الثورة المضادة أصبح الحديث عن الإرهاب وجرائمه وأن الحرية غير صالحة في البيئة العربية وأن الشعوب غير جديرة بالديمقراطية وغير قادرة على إفراز من يمثلها وعن مرشح الضرورة والزعيم الأوحد والرئيس المنقذ. أذكّرك حتى تقارن بين عهدين قريبين. قبل أن أذكّرك مرة أخرى أدعوك إلى أن تحكم عقلك وتتخلّص من أحكامك المسبقة وبعد ذلك قارن بين العهدين القريبين بموضوعية وبكل حيادية. عندما هبت نسائم ربيع الحرية على أوطاننا كان المواطن العربي يستبشر لما يسمع أن فتحاً جديداً ونصراً آخر تحقق على أرض العرب وكان يزداد فرحة وغبطة عندما يسمع بأن (رياح الربيع العربي ستطال الجميع وليس هناك من يكون في منأى عنه). أما الآن فقد انقلب الوضع وانتقل الخوف إلى معسكر الشعب وأخذت الأصوات تتعالى هنا وهناك بضرورة تأجيل مقاومة الطغيان إلى حين والأولوية مقاومة الأفكار المتطرفة التي تُزرع في عقول الشباب كقنابل موقوتة من طرف الإسلام السياسي من الإخوان وداعش وأخواتها وترى تطبيقاتها في الانفجارات التي تطال المنطقة من حين إلى آخر والحل على رأي هؤلاء يكمن في إقامة ثورة فكرية ضد الموروث الديني الذي ينتج هذه الأفكار ولا يُستثنى من ذلك حتى النص القرآني المقدس الذي يقيم فاصلا بين الأنا والآخر ويدعو إلى كراهية هذا الآخر وقتله في بعض الأحيان كما يقولون كتب أحد منظريهم مؤخراً قائلا: (لا تزعم أنك محايد في هذه الحرب أنت جزء منها شئت أم أبيت على نتائجها سيتوقف مستقبل دولنا وشعوبنا ونمط حياتنا وهي طويلة ومريرة مفتوحة داخل منازلنا وفي المدارس والجامعات وفي المسجد وعلى أطرافه وداخل المؤسسات الدينية والمناهج الدراسية إنك جزء من هذه الحرب ولا خيار أمامك غير الانحياز إلى معسكر الاعتدال وقبول ما يستلزمه من قرارات مؤلمة من إصلاحات عميقة أو ثورة فكرية شاملة إنها الطريقة الوحيدة لإنقاذ وطنك وأطفالك وإنقاذ أطفالك من مصير مشابه لمصير من سقطوا في تونس أو الكويت أو مناطق أخرى لا تتهرب لا تغسل يديك). للأسف ينسى هؤلاء أن الطغيان هو الذي يصنع التطرف وأن الإرهاب هو شرط وجود الاستبداد واستمراره وبينهما علاقة حميمية كبرى. نتيجة لذلك لم تتفتح في ربيع العرب ورود الياسمين ولم تنبت في أراضيه القاحلة نباتات خضراء ولم تتحول أرض العرب إلى واحة للحريات والحقوق وتحول الحلم بين ليلة وضحاها إلى كابوس مزعج وتحول الوطن العربي الكبير إلى سجن كبير يضيق بأهله والسؤال الذي يطرح هنا: كيف انقلب الوضع هكذا بسرعة واغتيل الحلم وهو في المهد؟ المؤامرة.. إنها المؤامرة مؤامرة وظف فيها الغرب عملاءه في المنطقة من أجل كبح جماح الشعوب المتعطشة لحياة العزة والكرامة وتائقة لغد أفضل تتلون فيه أيام العرب بالحب والتعاون والتضامن والتسامح لقد رأى الغرب أن مصالحه مهددة وحلفاءه في المنطقة لا يملكون رصيداً شعبياً يمكنهم من الوصول إلى الحكم وأن الذين ينالون رضا شعوبهم هم من ينافسون الغرب ويقفون ضد مشروعه وتمدده في المنطقة فقُرعت أجراس الخطر واُستدعي من يملك القوة وطلبوا منه أن يسرع في إطفاء جذوة الغضب هذه قبل فوات الأوان فتركوا الشعب السوري وحيداً يقاوم آلة القتل والدمار الأسدية المدعمة من طرف إيران وأعوانها وسكتوا عن انقلاب السيسي وجرائمه في حق الشعب المصري وأسسوا جماعة (داعش) تدعي محاربة الشيعة والدفاع عن أهل السنة لما رأوا أن الثوار العراقيين قاب قوسين أو أدنى من بغداد وسلموا اليمن السعيد إلى الحوثيين ونصبوا حكومة جديدة في ليبيا تنافس الحكومة الشرعية وساعدوا رموز النظام القديم على العودة إلى الحكم في تونس. هناك أسباب أخرى أدت إلى فشل الثورات العربية لعل من أهمها أنها اتسمت بالعفوية والتسرع وافتقادها إلى القيادة الرشيدة والحكيمة بالإضافة إلى استعجال الثوار تحقيق ما يصبون إليه وما يريدون تحقيقه وصراعات النخب الثائرة فيمن له الأحقية في إرث الثورة وبالأخص بين الإسلاميين والعلمانيين والانقلاب في مصر خير شاهد على ذلك. كل هذا أدى إلى ضياع الحلم وفشل ثورة تطلعت لها أمة مكلومة. ماذا يقول العربي الذي نادى بالحرية والديمقراطية الآن؟هل يلعن الحرية؟ وهل يلعن الديمقراطية؟ ماذا يقول العربي المغبون الذي حلم بعد ثورات واعدة بدول قوية دول تعز شعوبها وتقهرأعداءها يعتز الإنسان بالانتساب إليها حيث يقول للقاصي والداني (سجل أنا عربي) ماذا يقول وهو يرى المآل البائس الذي انتقل إليه والمصير التعيس الذي ينتظره مآل يتلخص في مشاهد الدم والقتل والدمار ومصير مجهول مع كل يوم يمر تتحدد معالمه الكبرى بأن العرب مقبلون على خسارة أوطانهم بعد أن خسروا حريتهم وكرامتهم وإلا كيف تفسر الاحتراب الأهلي والاقتتال الطائفي الذي يزداد سُعاره في المنطقة مع مرور الأيام هل يمكن أن تعود الثقة ويعيش السني مع الشيعي بسلام في العراق؟ وفي سوريا هل ترجع العلاقات الودية بين العلويين والسنة إلى سابق عهدها؟ وهل يرضى الأكراد بأن يعيشوا بعد اليوم في دول لا تعترف بوجودهم؟ لا أعتقد ذلك أن ما كسرته هذه الأيام لا تجبره السنين الطوال. ما الحل لهذه المعضلة إذن؟ بما أن العرب لا يملكون مفاتيح الحل لحل قضاياهم لأن معظم الحكومات القائمة تفتقد إلى الشرعية الشعبية والمشروعية القانونية بل قل هم جزء من المشكلة التي تعيشها المنطقة فإن الحل يطبخ على نار هادئة في مطابخ المخابرات العالمية الكبرى ويكمن الحل في العبث بخرائط العرب من أجل إيقاف هذا الاقتتال وإعادة نوع من الاستقرار إلى المنطقة الموبوءة بالنزاعات والحروب لذلك سوف تتعرض بعض الدول للتقسيم والتفكيك وتظهر دول جديدة على أساس عرقي وطائفي وقد تكون سوريا والعراق في مقدمة تنفيذ هذا المخطط والباقي سيأتي دوره مستقبلا. ماذا بعد؟ وما الحل؟ هل نلعن الربيع كذلك؟ قد نلعن الربيع كذلك لأجل عيون الأسد والسيسي وصالح. لا.. لن نلعن الربيع ولن نلعن الحرية والديمقراطية. بل لا بد من مقاومة الطغيان بكل أشكاله وصوره وبيان أوهامه وهدم أساطيره وأنه السبب الأول والأخير في مآسي العرب ماضياً وحاضراً ومستقبلا وأن تسويقه للأمن والاستقرار هو وهم وأن وعوده بالإصلاح والتغيير هو أكبر الأساطير ودعواه بأنه يحافظ على الأوطان ووحدة ترابها هي دعوى باطلة الواقع يفضحها والتاريخ يكذبها.