الرضا والإيمان والتسليم بقضاء الله وقدره منبعه نفس مطمئنة بحكمة الله، وقلب يثق في أن »أمر المؤمن كله خير، إن أصابته ضراء فصبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له«. ويُروى أن الخنساء رضي الله عنها قد ابتليت في الجاهلية بموت أخيها، فحزنت على فراقه حزناً شديداً حتى كاد أن يذهب بصرُها، وخلدته في شعرها. وتمضي المسيرة بالخنساء، ويمن الله عليها بالإسلام، وتُعمر إلى أن تبلغ خلافة عمر بن الخطاب، وتقع معركة القادسية، ويستشهد فيها خمسةٌ من أولادها، ويأتيها الخبر، فإذا بالخنساء التي أقامت الدنيا حزناً وعويلاً على أخيها تقول: »لله ما أخذ ولله ما أعطى، الحمد لله الذي شرفني بهم، وإني لأرجو أن يجمعني الله بهم في مستقر رحمته«. إن أبجديات العقل تقول إن الخنساء التي اشتد حزنُها على فراق أخيها وموته لهي أشد حزناً على فراق أبنائها واستشهادهم، فما الذي غيَّر شخصية الخنساء حتى تستقبل نبأ استشهاد أولادها بالرضا والتسليم بدلاً من النواح والعويل؟! إنها إشراقة النفس بنور الله، فخنساء الجاهلية غير خنساء الإسلام، وخنساء الكفر غير خنساء الإيمان، لقد ألقى الإيمان في قلبها برداً وسلاماً، فثبتت أمام نوائب الدهر، ومصائب الحياة. وتستحضر في نفسها كذلك قول الحق سبحانه: »مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا، إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ« (الحديد 22-23). إن الرضا والإيمان والتسليم بقضاء الله وقدره منبعه نفس مطمئنة بحكمة الله، وقلب يثق في أن »أمر المؤمن كله خير؛ إن أصابته ضراء فصبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له«. وفوق ذلك كله يدرك أن ابتلاءات الحق سبحانه للإنسان مغفرة لذنوبه، ومكفِّرات لسيئاته. يروي الإمام مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: »ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها«. وعن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: »سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: »ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: »إنا لله، وإنا إليه راجعون، اللهم ائجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها، إلا أخلف الله له خيراً منها«، فلما مات أبو سلمة قلت: »أي المسلمين خيرٌ من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم!«. وروى الإمام أحمد في مسنده عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: »قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاءً؟«، قال: »الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل، فالأمثل من الناس، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خُفِّف عنه، ومايزال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة«! وروى الطبراني عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: »يُؤتى بالشهيد يوم القيامة، فينصب للحساب، ويؤتى بمتصدق فينصب للحساب، ثم يؤتى بأهل البلاء، فلا ينصب لهم ميزان، ولا ينشر لهم ديوان، ويصب عليهم الأجر صبا، حتى إن أهل العافية ليتمنون في الموقف أن أجسادهم قُرضت بالمقاريض من حسن ثواب الله لهم«! ولا يصل إلى هذه المرتبة من الدرجات العلى إلا أصحاب النفس الراضية، التي رأت الحق سبحانه وتعالى عند كل شيء، فاطمأنت لحكمة الله. هنا تسمع النفس من يناديها قائلاً لها: »عبدي رضيت بقدري فسأعطيك على قَدرى«. وما بال الإنسان إذا ما كان العطاء على قدر كرم الله تعالى، ولا يتعرض لهذا العطاء إلا من أيقن بأن المحنة من الله في جوهرها منحة، وأن المنع من قبل الله في جوهره عطاء، فيستسلم لأمر ربه راضياً، ليكون الجزاء الذي قال عنه الله سبحانه: »إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ«. (الزمر: 10)