ما دلالات فوز الفيلم السعودي القصير »عايش« بالجائزة الأولى في مسابقة الأفلام الروائية القصيرة بمهرجان الخليج السينمائي الأخير؟ الدلالات واضحة. وأهمها أن هناك تيارا سينمائيا مثقفا وواعيا وحقيقيا نابعا من وجدان وأفكار الشباب السعودي المتفتح والمتنور، أصبح يمتلك قدرات فنية وثقافية، تؤهله لإنتاج سينما رهيفة الحس وراقية. إن فوز فيلم قصير قادم من بلد لا يحتوي حتى على دور عرض لأفلام روائية طويلة، معناه أن هناك روحا سينمائية تدب على أرض بكر تحتاج إلى من يرعاها ويحتضنها بشكل عملي، وليس بالكلام النظري، وشعارات الدعم الجوفاء. مخرج وكاتب ومنتج فيلم »عايش« هو عبد الله آل عياف، وهو أحد السينمائيين السعوديين الشباب، الذي يبدو أن طموحه السينمائي الواعد قادم من ثقافة سينمائية ودرامية مؤسسة بشكل ناضج وعلمي. العايش فعلا عايش أو »إبراهيم الحساوي« هو ذلك الرجل الوحيد الذي اجتاز منتصف العمر، ويعمل في مهنة شديدة الخصوصية، فهو حارس ثلاجة الموتى بأحد المستشفيات. ومنذ اللقطات الأولى للفيلم نتعرف على عالم هذا الرجل، الذي يستيقظ في الرابعة فجرا ليصنع كوبا من الشاي، ويغادر بيته في الطريق لركوب الباص، بينما يمر كل يوم على واجهة أحد معارض الموتوسيكلات لينظر عبر الواجهة لأحد الموتوسيكلات الجديدة، بشكل يوحي لنا بأن ركوب هذا الموتوسيكل يمثل أحد الأحلام التي لم يحققها الرجل. ويلتقط المخرج عبد الله آل عياف - وهو نفسه كاتب السيناريو كما أشرنا - هذه اللحظة، ليصورها لنا من داخل واجهة المعرض، وليس من خارجه، لنرى عايش في الفاترينة الزجاجية كأنه يتفرج على حلمه، ويتفرج حلمه عليه. لكن بمجرد أن نعرف أن »عايش« يعمل حارس ثلاجة الموتى تتضح المفارقة المقصودة المبنية عليها دراما الفيلم كله، فهذا »العايش« اسما هو أقرب ما يكون للموتى من الناحية المهنية والحياتية؛ حتى إنه يضع طعام غدائه في واحدة من ثلاجات الموتى الخالية دون أن يصيبه هذا بالغثيان أو الخوف! أين تبدأ الحياة؟ ذات يوم ودون سابق إنذار، يتم استدعاء عايش بشكل ودي ليحل محل زميل له في قسم الأطفال، ليصعد من الطابق السفلي عند ثلاجة الموتى إلى الطابق العلوي؛ حيث حضانة الأطفال حديثي الولادة، وكأنه صعود من تحت الأرض، حيث الموت والصمت إلى سطح الأرض؛ حيث الحياة التي تتفتح براعمها كل يوم في شكل روح جديدة تولد. هنا يُصاب عايش بصدمة إنسانية ونفسية، تجعله غير قادر على التعاطي مع أحد، حتى إنه - في مفارقة طريفة وعميقة - يعزي أحد الآباء، الذي جاء ليرى مولوده في الحضانة بدلا من أن يبارك له! هذه المفارقة تضعنا مباشرة أمام أزمة عايش، وهي أن الحياة شيء اعتيادي لو أننا لم نمارسها لفقدنا الإحساس بها، ولأصبحت علاقتنا بالحياة مجرد الاسم فقط »عايش«. ولادة جديدة لكن الحياة دائما أقوى، فكما وقف عايش ينظر من خلف واجهة معرض الموتوسيكلات على حلمه، وقف خلف الزجاج العازل للحضانة يراقب الحياة، وهي تولد وتتنفس، ومع حسه التأملي نتيجة فترات صمته الطويلة يلاحظ وجود إشارة حمراء في أحد الأجهزة، وعندما ينبه الطبيب المشرف إليها يكتشف أنه بدون قصد، قد أنقذ حياة طفلة في الحضانة كادت تفقد حياتها الوليدة. ويقرر الطبيب -مكافأة لعايش- أن يمنحه لحظة خاصة جدا؛ هي أن يدخل إلى الحضانة ليحتضن هذه الطفلة التي أنقذ حياتها في واحدة من أجمل لحظات الفيلم التي أداها إبراهيم الحساوي برقة ورهافة، كثفتها اللقطة المتوسطة التي احتواها فيها المخرج عايش والطفلة بمفردهم في الكادر، كأنها لحظة ميلاد الحياة في صدره، أو شعوره بالحياة لأول مرة، وهي تنبض بين ذراعيه الهرمتين. وتصبح تلك اللحظة لحظة ولادة جديدة له؛ لنجده في المشهد التالي وبدون أي لغط درامي أو مشاهد مقحمة، يركب الموتوسيكل الذي طالما حلم بركوبه، وقد كان يظن أنه صار رجلا كبيرا، ولا يحق له أن يمارس حياة الشباب، ويركب موتوسيكل. وينتهي الفيلم بلقطة رائعة؛ إذ يتكور عايش في وضع جنيني على فراشه، هذه اللقطة تذكرنا سريعا باللقطة الأولى للفيلم، وهي عايش وهو نائم على ظهره، فالنوم على الظهر وضع رقاد الموتى، وعايش كان ميتا على الرغم من اسمه وحياته، لكنه حين وُلد من جديد وانبعثت فيه الحياة صار ينام كالأطفال، وإلى جانبه »دبدوب« ضخم؛ رمز لحالة الطفولة الحياتية التي دبت فيه من جديد.