بقلم : فوزي حساينية * عندما يتعلق الأمر بشخصية فذة ومرموقة الطراز فليس من الضروري أن ننتظر حلول ذكرى الوفاة حتى نتحدث أو نكتب عنها خاصة في سياق المتناقضات التي تعتمل في الواقع الوطني حول قضايا اللغة والفكر والمجتمع ونزولا عند هذه القناعة الراسخة أريد أن أحدثك عن أديب مبدع ومفكر ملتزم يرغب الكثيرون في نسيانه وأحب أن أتذكره... ففي التاسع عشر من شهر جانفي من كل سنة تحل ذكرى رحيل أحد أعلام الأدب الجزائري الحديث وهو الدكتور محمد مصايف الرجل الذي كرّس حياته لدراسة الأدب وتدريسه وقدم مساهمات رائعة في اثراء الساحة الأدبية الجزائرية والعربية وعاش مدافعا عن العروبة لغة وهوية ومستقبلا ونادى بحتمية نبذ ثقافة التقليد بصورة مطلقة وضرورة التحرر من المفاهيم المستهلكة وبذل جهودا محمودة في ارساء أسس جديدة للنقد الأدبي بما يخدم حاضر ومستقبل الأدب والفكر العربي. وتعد حياة أديبنا الراحل في ذاتها قصة أدبية متميزة فقد ولد محمد مصايف سنة 1924 بمنطقة ندرومة التابعة اليوم لولاية تلمسان وبمسقط رأسه هذا حفظ القرآن الكريم وتلقى مبادئ النحو والصرف وأصول الشريعة الاسلامية ثم تابع دراسته في احدى مدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في مدينة مغنية ولأن طموحه للعلم والمعرفة كان قويا ومتقدا فقد سافر إلى مدينة فاس بالمملكة المغربية أين التحق بجامعة القرويين من سنة 1946 إلى سنة 1949 وبالموازاة مع تحصيله العلمي كانت له نشاطاته السياسية التي عرضته لملاحقات وتحرشات عناصر الشرطة الفرنسية مما دفعه دفعا إلى مغادرة مدينة فاس في ظروف يطبعها القلق والاصرار على مواصلة رحلته في تحصيل شتى فنون الثقافة والفكر فحطّ رحاله بجامع الزيتونة بتونس وهناك أمضى قرابة السنتين ليعود إلى أرض الوطن في أواخر سنة 1951 ويشتغل بالتدريس الحر حيث نهض بواجبه في التعليم والتدريس بحماسة ونشاط كبيرين ولأن نشاطه في ميدان التربية والتعليم كان مثارا للقلق والتبرّم لدى السلطات الاستعمارية فقد كان أديبنا من أوائل الذين تم اعتقالهم غداة اندلاع ثورة أول نوفمبر المجيدة ولكن ولحسن حظه فقد تم الافراج عنه بعد مدة لانعدام دليل يٌدينه فسافر إلى باريس مناضلا في سبيل القضية الوطنية ومكبّا على قراءة ومطالعة أعمال الأدباء والشعراء الفرنسيين وقام بوضع ترجمات لبعض مقالاتهم وأعمالهم. ملامح.. وفي ظل الجزائر المستقلة ومن خلال تدريسه في جامعة الجزائر انخرط محمد مصايف بشكل نهائي وكلي في خدمة الأدب العربي وراحت ملامح وأبعاد شخصيته الفكرية كناقد أدبي متضلع تنضج وتتضح من خلال قراءاته الواسعة واحتكاكه بالأوساط الأدبية المغاربية والعربية فقد أصدر سنة 1972 كتابا بعنوان جماعة الديوان وأتبعه بكتاب النقد الأدبي الحديث في المغرب العربي الذي نال به شهادة الدكتوراه من جامعة القاهرة سنة 1976. ولست هنا بصدد استعراض مؤلفاته كلها فهي عديدة وتتمحور في أكثرها حول النقد الأدبي منها فصول في النقد الجزائري الحديث و الرواية العربية الجزائرية بين الواقعية والالتزام و المناهج النقدية المعاصرة و النثر الجزائري الحديث و في الثورة والتعريب ...وغيرها وإنما قصدت الإشارة إلى أن الدكتور محمد مصايف لم يلق حقه من الدراسة والاهتمام إذ يستطيع كل قارئ لأعماله ومؤلفاته أن يدرك بوضوح وجلاء أن هذا الأديب الفذ بأفكاره وأرائه وتحليلاته العميقة النافذة شكل في تاريخنا الأدبي الحديث مشروعاً أو مدرسة أدبية لم تكتمل وبعبارة أخرى فقد كان محمد مصايف بمؤلفاته ودراساته النقدية يضع الأسس المتينة لمدرسة أدبية متطورة في النقد الأدبي كان من الممكن جدا لو وجدت من يواصل البناء على الأسس التي وضعها أديبنا الراحل أن تتضح ملامحها وتنضج مقولاتها بما يعود بالنفع الكثير على حياتنا الأدبية والثقافية التي يتفق جل الأدباء والكتاب على أن أخص ما تحتاجه اليوم هو الممارسة النقدية السليمة والنوعية التي من شأنها أن تساهم في دفع حركة الإبداع الأدبي والخروج به من ساحة الدوائر الوهمية والمنطلقات الذاتية الموغلة في الأنانية والجبن الأخلاقي والاجتهاد في إرساء قواعد النزاهة والانصاف وقيم الانفتاح الخلاّق على عالم الثقافة والفكر الانساني كأفضل ما يكون الانفتاح. رسالة خاصة ويبقى أهم درس يمكن استخلاصه من حياة وأعمال أديبنا الراحل هو أن الثقافة والأدب في وطن بحجم الجزائر رسالة وجهد وولاء للمبادئ والأفكار ومشروع يتطلب الصدق والاجتهاد في الرفع من مستوى وعي الناس اللغوي والثقافي والفكري بعيدا عن كل أساليب التكلف والتملق والسعي المقيت لاصطياد المجد والشهرة الأدبية الوضيعة كما يفعل اليوم بعض الذين تخصصوا في الكتابة حول ما يسمى بخرق الطابوهات الدين والسياسة والجنس أو بالدعوة إلى الواقعية المزعومة والتي تتصيد الإساءة إلى الأبطال والرموز بحجة الإبداع السينمائي أو كتابة الادب باللغة الفرنسية لأنها في زعمهم توفر لهم فضاء أوسع وأكثر تحررا للإبداع ! وكأن الذين يكتبون باللغة الانجليزية أو الالمانية أو الاسبانية مثلا مقموعون ولا حرية لهم ! والحقيقة أن الأمر لا يتعلق بالبحث عن فضاء أوسع للإبداع بل بمحاولة التموقع في الصالونات المتخصصة في فتح المجال أمام أبناء المستعمرات الذين يكتبون بغير لغاتهم الوطنية لأنهم مسوخ ٌمُزّينة وكائنات بدون قضية وإلا فأي معنى لأدب يكتب بلغة أجنبية بعد سبع وستين سنة على استرداد السيادة الوطنية ؟ وماذا يتبقى من السيادة أصلا لغويا أو أدبيا أو سياسيا في ظل لغة أجنبية مهيمنة ؟ يبدو أن هؤلاء لم يستمعوا لمقولة الأديب الوطني الكبير مالك حداد الذي تكلم على طريقة الكبار معلنا اعترافه الشهير اللغة الفرنسية منفاي لكنهم أصاخوا السمع وأرهفوا الحس لواحدة من أكثر المقولات جبنا وبهتانا وانحطاطا في التاريخ اللغة الفرنسية غنيمة حرب ولم يقولوا لنا ماذا استفادت الجزائر من هذه الغنيمة المزعومة ؟ ولا كيف أصبحت هذه الغنيمة بحوزتنا؟ ولماذا يتسم أدعياء الغنيمة المزعومة هذه بكل أنواع العقد النفسية وينحصرون دائما في مجال ضيق من الفكر والوعي؟ ولماذا يريدون تسميم وتشويه أعظم وأقدس رموز الوحدة الوطنية من خلال الدعوة إلى الدارجة ؟ هل رأيتم مثقفا أو وزيرا أو أديبا ألمانيا أو فرنسيا ينحو هذا المنحى الشاذ والمرضي تجاه لغة بلاده ؟ وأسئلة أخرى كثيرة ومريرة ولكنها تحثنا على استحضار حياة محمد مصايف ونضاله الأدبي ومواقفه الفكرية واللغوية التي تعد بحق مدرسة للأجيال فقد كان محمد مصايف يجيد اللغة الفرنسية ومطلعا على الادب الفرنسي وأنجز العديد من الترجمات الأدبية من الفرنسية إلى العربية وكان قادرا على أن يجعل من اللغة الفرنسية الأداة الأساسية في الكتابة على اعتبار أنها غنيمة حرب ولكنه اختار أن يكتب باللغة العربية لغة المستقبل وغنيمة الحرب الحقيقية التي استعدناها من براثن الاغتصاب والتآمر ومنطق الابادة والتزييف أما الفرنسية فهي لغة أجنبية وضريبة حرب سنبقى ملزمين بدفعها حتى نستكمل مقومات وعناصر وعينا الوطني والقومي وعندها ستكون اللغة العربية لغة العلم والحضارة كما فعلت عبر القرون. وصفوة القول أن على الأديب أن يتقن من اللغات الاجنبية قدر المستطاع لكن لا أدب بغير لغة الأمة ولا أمل في نهوض أمة أو شعب بعيدا عن لغته القومية هذه هي رسالة ووصية أديبنا الفذ للأجيال ولم يكن محمد مصايف مسِؤولا ولم يكن تحت تصرفه أموال ولا بحوزته امتيازات من أي نوع ولكنه خدم الثقافة الجزائرية والمغاربية والعربية بصورة نعيد اكتشافها اليوم بكل إعجاب وتقدير أفلا يستحق محمد مصايف أن يُنظم باسمه وعلى شرفه مهرجان أو ندوة ؟ سؤال مطروح..