كثيرا ما استغرب كيف أنّ الجزائريين يحلمون دائما وأبدا بالهجرة إلى أوروبا، وكيف أنّ آباءهم وأجدادهم من قبل، ورغم أنهم كانوا مُستعمَرين، ومضطهَدين، وقادرين على الهجرة دون تأشيرة ولا شيء، إلاّ أنهم كانوا لا يفعلون، وكان كثير منهم يفضل الموت في قريته وحيِّه، على أن يتجه إلى بلاد يعتبرها عدوة أبدية له، فما الذي وقع لنا؟ ما فجّر هذا السؤال بداخلي أني التقيت قبل يومين صديقا لي من أبناء الحي حدثني أنه ينوي السفر إلى فرنسا، والى أيّ بلد من بلدان أوروبا، ورغم أنه لم يكن يعلم ما يصنع هناك، وما الذي يمكن أن يفعله، وهو الذي لا يتقنّ أي حرفة، بل لا يملك حتى الأوراق اللازمة، ولكنه كان يتحدث بحماس مفرط، وقال بأنه، وحتى وان لم يُوفق إلى السفر، فانه سيفعل المستحيل لكي يقطع البحر، حتى لو كلفه ذلك اعتلاء قوارب الموت. ما أثار استغرابي وغربتي، أنّ والد هذا الصديق هو إنسان مجاهد، شارك في الثورة التحريرية، وكان مستعدا أن يفقد حياته لأجل أن تستقل الجزائر، وها هو ابنه اليوم، مستعدا لأي شيء لكي يتجه إلى فرنسا، ولو حال الموت دونه ودونها، فأيّ فرق بين الجيلين، وأيّ تناقض بين أمس واليوم. كان حلم الجزائريين وهم يعيشون نيران الاستعمار أن ترحل فرنسا، بل ويستميتون في ذلك، ويواجهون الرصاص والدمار بقلوب خاشعة، وصار حلم الشباب الجزائري، او كثير منهم اليوم أن يرحلوا إلى فرنسا، بل ويستميتون في ذلك، ويقطعون البحر ويعرضون أنفسهم إلى خطر الموت. الفرق أن شباب الأمس كان له هدف يسعى لاجله، ويؤمن به، ويفعل كل شيء لكي يتحقق، ولو دفع حياته ثمنا لذلك، هذا فان الجزائريين كانوا يستميتون في الدفاع عن وطنهم، ويركضون وراء حلم الاستقلال، ولا يتمنون إلاّ أن يرفعوا راية الدين، ثمّ راية العروبة والوطن، لهذا فقد كان يرى أن مهمة تنتظره على أرضه، هي مهمة تحرير بلده من ضلال الاستعمار أولا، ثمّ من النهوض بها نحو الأمام، وبناء مستقبل مضيء. أمّا شباب اليوم، وفي ظلّ الحالة المزرية التي يعيشها، أضاع ليس الهدف فحسب، ولكن حتى الطموح والأحلام وصار تائها لا يعرف طريقه في خراب دائم، بل صارت اهتماماته أتفه من حياته، وأبأس من أيامه السوداء التي ملأها الانتظار، وصار أفُقه كله غيوما رمادية، تطل منها كآبة لا مُتناهية تدعوه، بل تغرييه بالجنون والعبث فصاروا يركبون البحر نحو المجهول، ولهذا صاروا يُحرقون أجسادهم هربا من مصير عاشه قبلهم كثيرون، أرادوا التغيير، فاختاروا اقصر الطرق إلى الهلاك. لهذا فلا بد، وقبل أن نحاسب شبابنا ونصفهم بعديمي الأخلاق والمُخربين الذين لا يفعلون سوى التكسير في حالي الفرح والحزن، ونتفوه بحماقات مشابهة، عوض أن نعمل على سدّ الفراغ، وإحياء الطموح والحلم اللذين أمتناهما فيهم، ولا نكبلهم بأهداف تافهة أشبه بالسراب والعدم