بقلم: سامي بن كرمي* طلع البدر علينا لا ندري من أي صوب. لم يثبت أنها أبيات قيلت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أنه ثبت إنشادها في محافل عديدة بحق وبدون حق. قرنت هذه الأبيات بقدوم المُخَلِّصِ الصادق الأمين صفات تنطبق على المعني بها فيصبح أهلا للمديح حُقَّ له سماعها ووجب على المادحين الصدح بها. كلمات تغنَّى بها المُغنّون والشُّعراء والمادحون والمنتهزون والمهرجون. في عهد تنقلب فيه الموازين موازين الجد مع موازين الهزل وموازين الإخلاص مع موازين الانتهاز وموازين الصدق مع موازين النفاق يمتطي أصحاب المصالح ظهور المهرجين خدمة لمصالحهم. موعدنا معكم بعد سبات طويل ستعود فينا الروح بعد خمس سنوات وحينها سنحتاج للمهرجين. الغاية تبرر الوسيلة والغاية هنا فرصة لا تُعوَّض أبواب الرفاهية ستفتح على مصراعيها أمام السُّباتيين. بدلاً من أن ترفع النخبة بمستوى النقاش إلى ما فوق فهي لا تتوانى في ِأن تنزل بمستوى هذا النقاش إلى ما هو في الحضيض فتجر معها غيرها إلى أحط المستويات. بين الخيال والواقع.. يبدأ أحدهم حَرَكِيَّا ووطنيا ومفعما بمبادئ الوفاء والإخلاص وينتهي انتهازيا مستغلا كل شيء للاستفادة من كل شيء. حقا أصبحنا في عصر يصير فيه الحليم حيرانا من هول ما يرى. من يُصَدِّقُ ومِمَّن يحترس؟ من كنا نثق بهم بالأمس أصبحوا مثالا في النفاق والفساد تُضرب بهم الأمثال. لا يَمَسّون قطاعا إلا استشرى الخراب من بعدهم وفي كل الأحوال الخطأ بسبب الآخر هذا الآخر لا أحد يعرفه إلا أنه هو السبب. كم أضحكنا كرنفال في دشرة حين كان خيالا في التلفزيون وكم أبكانا كرنفال في دشرة حين أصبح واقعا نعيشه فيتحول إلى كرنفال في وطن. سي مخلوف البومباردي شخصية عَرَّتِ السُّباتيين فَعَرَفَ بكل صدق وأمانة توصيفهم. هو شخصية خيالية بسيطة وعلى نياتها أحس أن بإمكانه العملُ لمصلحة البلاد والعباد أحاط به المهرجون والانتهازيون وأصحاب المصالح. إلا أن سي مخلوف البومباردي الحقيقي ليس بالبسيط ولا على نياته يعي ما يقول وما يفعل من مصلحته أن يحاط بالانتهازيين والمهرجين وذاك هو السبيل. حتى الحياء صفة يفقدها السُّباتيون يواجهون القاصي والداني ويتكلمون ويتشدقون ويتفلسفون وقد يحصل لهم أن يكونوا من الوعاظ والناصحين. تعسا لكم وفي الخسائة غرقتم. حين تختل الموازين فلا يبقى في الساحة إلا السباتيون والمهرجون. ليس من مصلحة الانتهازيين أن يزاحمهم أصحاب الضمائر الحية والمخلصون لذا وجب تهميشهم وهم في هذا بارعون خلاقون لا يتوانون في رص صفوفهم بالمهرجين واللصوص والمنافقين وذلك لعلمهم بأن النحل الطيب لا يحط في أكوام القاذورات فهم ضدان لا يجتمعان. النحل الطيب موجود والخير في البلاد والعباد أكيد ورجالات الجزائر ونساؤها الخيرون كثر موجودون في ربوع الوطن وما المبادرات التي تنشر من خلال مواقع التواصل الاجتماعي إلا دليل على وجودها وإن كانت مبادرات محدودة فهي تدل على نبض الحياة واستمرار الروح. من النحل الطيب من قدم حياته للجزائر فعاش لها ومات من أجلها مسيرته نفس مسيرة سي مخلوف البومباردي الحقيقي إلا أن من أسس بنيانه على تقوى ليس كمن أسس بنيانه على مصلحة يصيبها فاختلفت المسارات فكانت بداية المشوار واحدة ولكن افترقت بهم الطرق هذا كتب اسمه بحروف من ذهب في كتب التاريخ بينما الآخر في مزبلة التاريخ سقط. هو أحد أعمدة الحركة الإصلاحية في الجزائر يشهد له التاريخ بنقاوة فكره وشدة عزيمته وخاصة حبه للجزائر لا يفوق هذا الحب أي حب آخر. شخصيتنا لهذا الأسبوع هو المعروف بذي القبرين هوالشيخ محمد بوسليماني رحمه الله. جهاد.. ولد محمد بوسليماني في حي الدردارة في ولاية البليدة يوم 5 ماي 1941 في كنف عائلة محافظة. تأثر أبوه كثيرا بحركة الإصلاح في الجزائر وبالخصوص بالشيخ الطيب العقبي رحمه الله. حفظ القرآن الكريم مبكرا والتحق بمدرسة الإرشاد التي أسستها الحركة الوطنية. أعان أباه مبكرا في إعالة عائلته فعمل معه في التجارة والبناء فنضج فكره وتحمل المسؤولية منذ نعومة أظافره. لم تكن الثورة المباركة لتمر من دون أن تؤثر فيه وفي أقرانه المخلصين فانخرط في العمل الفدائي ابتداء من سنة 1957 وجعل بيته ملجأ للمجاهدين كما تولى بعضا من الأعمال اللوجستية لصالح الثورة والثوار. قدمت عائلته 14 شهيدا في سبيل الوطن ومنهم أخوه الوحيد. بعد الاستقلال تم تعيينه على رأس اللجنة الثقافية بقسمة جبهة التحرير الوطني بالبليدة إلا أن توجهه غير المتناسق مع التوجه الاشتراكي والقومي آنذاك سرعان ما أدى إلى عزله عن هذا المنصب. كما اشتغل في التعليم بداية مدرسا للغة العربية في مدرسة وادي العلايق ثم عين سنة 1965 مديرا لمدرسة الهداية ببوعرفة البليدةإلى غاية سنة 1968 التحق بعدها طالبا بالجامعة المركزية بالعاصمة في قسم المدرسة العليا للأساتذة بكلية الآداب حيث تحصل على شهادة الليسانس في اللغة العربية سنة 1972 عمل بعدها أستاذا للغة العربية في ثانوية الفتح بولاية البليدة كما ترأس اللجنة الثقافية التابعة للولاية خلال نفس الفترة. كان محمد بوسليماني من المعارضين لميثاق سنة 1976 لما رأى فيه من تعارض لمبادئ ثورة نوفمبر والتي نصت على مجتمع وطني ديمقراطي في إطار المبادئ والتعاليم الإسلامية. رفقة إخوانه من المعارضين وعلى رأسهم الشيخ محفوظ نحناح وباسم جماعة الموحدين وقع بوسليماني بيانا موجه إلى هواري بومدين تحت عنوان (إلى أين يا بومدين؟) معارضين التوجه السياسي للحكم آنذاك وصبغة الاشتراكية التي طغت عليه ومنتقدين تهميش المبادئ الإسلامية ومخالفتها أحيانا من قبل السلطة الحاكمة. زج به في السجن بعد حكم بثلاث سنوات قضاها بين سجن بوفاريك والبرواقية إلا أن ذلك لم يثنه على مواصلة نشاطه الدعوي فكان له الفضل في إصلاح عدد كبير من المنحرفين والمجرمين الذين عايشهم في دهاليز السجن. كان لمحمد بوسليماني نشاط دعوي حثيث إذ عين أستاذا منتدبا للتوجيه الديني لدى الإدارة المركزية لوزارة الشؤون الدينية ابتداء من سنة 1981 وخطب وحاضر كثيرا في مساجد الجزائر وجامعاتها مكرسا كل جهده لإصلاح الأمة والنصح لها على نهج السلف الصالح. شارك الشيخ محمد بوسليماني في صياغة بيان تجمع الجامعة المركزية سنة 1982المعنون ب(النصيحة) حيث ذكر موقعوه بخطورة الظرف الذي كانت تمر به البلاد وضرورة استدراكه وتطهير أروقة القرار من العناصر الدخيلة التي كان تعمل لمفاقمة الأزمة التي عاشتها البلاد وجرها إلى ما لا يحمد عقباه وأنه لا زال المخلصون في نفس الأروقة وفي الشارع الجزائري الذين سخروا أنفسهم للحفاظ على مكاسب الثورة وقيادة البلاد إلى بر الأمان. بعد أحداث أكتوبر 1988 تنبه محمد بوسليماني للمؤامرات التي كانت تحاك ضد الأمة وإلى الفتنة التي سعرت لأبناء الوطن الواحد فوقف ناصحا مبينا بكل ما أوتي من قوى لرأب الصدع وإعادة توحيد صفوف الجزائريين. إصلاح.. تعاون محمد بوسليماني مع ثلة من رفقائه في تأسيس جمعية الإرشاد والإصلاح وتحصلت الجمعية على ترخيصها سنة 1989 وترأسها بداية محفوظ نحناح وبعد سنتين من ذلك تولى هذا الأخير زعامة حزب حماس وعين بوسليماني رئيسا للجمعية. هدفت الجمعية إلى المساهمة في بناء حضارة أمة أسست مبادئها على العدل والمساواة والمؤاخاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كما صَبَتْ إلى إنشاء جيل جديد مفعم بحب الوطن من خلال تواجد الجمعية على الميدان في كافة ربوع الوطن. فأسست الأندية والكتاتيب ورياض الأطفال وأخذت بأيدي النشأ إلى بناء مجتمع متجدد يحب بعضه بعضا ويضحي من أجل بناء غد أفضل للبلاد. تألم الشيخ بوسليماني كثيرا للمحنة التي عاشتها البلاد وما فتئ بالموازاة مع أنشطته ضمن جمعية الإصلاح والإرشاد أن يسعى إلى لم الشمل والصلح بين أطراف النزاع غير متوان في أن يقول للمخطئ أخطأت وللمصيب أصبت. فسعى جاهدا لحقن الدماء واستتباب الأمن في ربوع الوطن. في فجر يوم الجمعة 26 نوفمبر 1993 بينما كان يتلو القرآن في بيته اقتحمت مجموعة إرهابية بيته وقامت باختطافه إلى جبال الشريعة حيث مكث قيد الأسر فترة من الزمن إلى أن تم اغتياله ودفنه في سفح جبل العفرون. بعد فترة وإثر سيول كبيرة حصلت في المنطقة انكشفت جثة الشهيد بوسليماني وتم التأكد من هويته فأعيد دفنه في مقبرة الدردارةبتاريخ 30 يناير 1994 وسط جمع مهيب فاق 250000 مشيع شهدوا له كلهم بالصلاح والصدق وأطلق عليه حينها اسم ذو القبرين. مما قاله الشيخ محمد بوسليماني: كل مسلم يعيش فوق هذه الأرض هو من أجل رسالة يتحرك حاملا أمانة ولن يستطيع تبليغ هذه الرسالة لأصحابها إلا إذ عاش ....... الإسلام الصحيح ولا يمكن أن يقوى على هذه الأمانة إلا إذا حركته حرقته على الدعوة برصيد قوي من التوكل على الله. كما قال أيضا: أحسن وأروع عملية يقوم بها الإنسان في الحياة هي الكلمة الطيبة فهي عمل حركي ويأتي الضابط الشرعي في المفهوم الإيجابي (إلى الله) فمن لم يدع إلى الله كان هذا العمل الحركي مرفوضا. محمد بوسليماني واحد من الصادقين المخلصين والذين نحسبهم كذلك ما كان همهم دنيا يصيبوها أو منصب يعتلوه أو حزب يتقوَّوْن به قضى نحبه في سبيل ما آمن به وآثر التضحية على التكسب واستغلال المناصب. غيره كثير والخير في البلاد موجود إلّا أّن هؤلاء الصادقون آثروا التنحي جنبا عن كل ما قد يؤدي بهم إلى ما وصل إليه سي مخلوف البومباردي الحقيقي مفضلين العمل بعيدا على الأنظار لا يبتغون منفعة خاصة همهم الوحيد ترك بصمة إيجابية وبث الروح من جديد في هذه الأمة عسى أن يكون غدها أفضل من يومها. رحم الله الشيخ محمد بوسليماني وأسكنه فسيح جنانه كما نسأله تعالى أن يوفق أصحاب الهمم الصادقة والنيات الصافية في مواصلة درب الإصلاح ونفع البلاد والعباد.