بقلم: لطفي العبيدي صراع الحضارات في عالم اليوم يزداد تصاعدا منذ عقود تسعى فيه كلّ حضارة أن تُهيمن على الأخرى وتفرض حضورها وفق منطق الدّمج أو الإلغاء وهي تنقاد بموروث فكري تاريخي يعُوق قبولها الانفتاح والتواصل بدل الصدام والصراع الأمر الذي أفضى إلى اضطرابات أصبحت تسود العلاقات الدولية تقدّمت في سياقها ضروب عدم اليقين في كلّ شيء وفي كلّ مكان. وكلّ شيء في هذا العالم بات في أزمة تأكيدا مُجدِّدا لإقرار عالم الاجتماع الفرنسي ادغار موران وهذا يعني أنّه إذا استطاع الأنبياء أن يتنبأوا والعرّافون أن يتبصّروا فإنّ المشخّصين لحراك العالم وتفاعلاته لم يعودوا يستطيعون أن يروا جيّدا كذلك المتكهّنين قصُرت رؤاهم الاستشرافية. فحاضر كوكبنا في ضياع ومهمة التفكير فيه هي المهمة الأكثر ضرورة وإلحاحا خاصّة عندما يصبح الإرهاب تعويذة ونوعا من التنجيم السياسي ومجالا رحبا لذوي المواهب في أن ينسجوا صُوَرا ويصيغوا نصوصا وأفكارا عن هذا الموجود في ما وراء غايته عن هذا الغائب الحاضر الشبح والواقعي الاستشباحي والاستيهامي كما يصفه الباحث والكاتب السوري إبراهيم محمود. وهذه الحضارة الإنسانية في تجلّياتها العظمى فكريّا وماديا يبدو أنّها تتدرّج في سلّم الهمجية والفوضى شيئا فشيئا. فهل على العالم أن يبقى يتجرّع مرارة الحرب ومطامح الهيمنة والإقصاء والتغييب بدل أن ينتقل إلى العيش وفق ثقافة التّسامح ولغة السّلام والعدل والأخلاق الإنسانية؟ تجري الأحداث بوتيرة متسارعة في عالم اليوم الذي يرتبك فيه القانون الدولي وتزدوج فيه المعايير خاصة تلك المتعلّقة بحقوق الإنسان والديمقراطية وتُرجَّح كفّة المساومات الماليّة والصفقات التجارية ويتقلّص التعامل الأخلاقي مع قضايا الفرد والمجموعات. وبالمحصّلة فإنّ مجال الاختيار يبقى ضيّقا جدّا بالنسبة للشعوب ومثاله الحريات الفردية والجماعية وليس هناك مسوّغ في أيّ وقت مضى أكثر ايضاحا من الآن يفسّر تهافت مثل هذه الحكومات التقليدية وتشبّثهم بمصالحهم الخاصّة ودفاعهم المستميت لشأنها. وليس ذلك بالأمر الغريب فالدولة تاريخيا تميل إلى ممارسة الاستبداد والقهر والظلم والتعدّي على حقوق الناس بحجّة حماية المجتمع من الفوضى وخطر النزاعات. ومن السهل جدا مقايضة الشعب بين حريته وأمنه خاصة مع ازدياد العنف المتلازم مع ظاهرة الارهاب الدولي فما بالك بأنظمة حكم وكأنّنا بها تحكم بتفويض إلهي وتفعل ما تشاء ويصبح معها إلغاء الرأي المخالف أمرا حتميا واغتيال الصوت الناقد بأيّ طريقة كانت لا يضيرها في شيء مادام كلّ شيء يُباع ويشترى في مزاد العلاقات العامّة وسوق المداولات المالية. التمست الولايات المتّحدة روابط أوثق مع الأنظمة الأوتوقراطية وتشدّقت كذبا بأنّها ترغب في نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط في حين تدعم على مدى عقود الأنظمة الديكتاتورية والقمعية وبسبب مقتضيات الاستقرار النفطي والتجاري تغضّ الطرف عن الحكومات الفاسدة وتُحوّل الدول إلى كيانات جيوبولوتيكية ضعيفة تفقد مؤسّساتها الحاكمة ثقة مواطنيها الذين يُتابعون صورة مشهدية متواصلة لدول ضعيفة سياسيا ومهزومة دبلوماسيا في المحافل الدولية وقد تمّ احتواؤها اقتصاديا وماليا ضمن شبكات العولمة الآسرة والخانقة. والمؤسسات السياسية الغربية خاضت أشواطا مهمّة دفعا باتّجاه إثارة النزاعات والحروب في الأماكن الاستراتيجية وفق معطيات المصالح واجتراح النفعية ودوافع الضغائن الحاقدة والعقلية السوقية الربحية التي خلّفت تاريخا طويلا من القلق السياسي والأخلاقي والديني انطوى على التحريض أكثر من التبصّر ومدركات البصيرة. وباختصار مفهومي يمكن القول بأنّ العالم الذي سعت الولاياتالمتحدة إلى خلقه على صورتها من خلال الهيئات الدولية هو عالم يقوم على مبدأ حكم القوّة المعنى المرتسم عمليّا لدى امبراطورية الشرّ المارقة باصطلاح تقويميّ لتشومسكي كما يستلزم الشغف الأمريكي بالتّجارة الحرّة أنّه يمكن لحكومة الولاياتالمتحدة خرق الاتّفاقيات التجارية ساعة تشاء وهذا بيّن في السنوات الأخيرة يُوازيه خرق الاتّفاقيات السياسية ومثال الملف الايراني خير سند وثائقي في هذا السياق ولم تسلم اتفاقيات حماية البيئة والمناخ من مزاجية الحكّام في واشنطن وليس ثمّة مشكلة البتّة في استيلاء الشركات الأجنبية الأمريكية في أغلبها على قطاعات الاتّصالات والتّمويل والمواد الغذائية ومن ناحية ثانية تصبح الأمور مختلفة حين تتعارض الاتّفاقيات التّجارية والقانون الدولي مع مشروعات الطرف الذي يعتقد أنّه قوي وما يحدث من عقوبات أمريكية تجارية على روسيا والصين مثال نابض ينسجم مع دروس التاريخ البيّنة التي لا ترغب قوى الهيمنة في استيعابها.