مما قرأته قبل سنين أن صاحب جائزة نوبل، الروائي الشهير إرنست همنغواي، كان يكن احتراما شديدا لمواطنه سكوت فيتزجيرالد لأنه تعلم منه فن الرواية وتقنياتها وبعض ما تعلق بالفلسفة والصداقة وعلم الجمال والحياة، وظل مدينا له في تجربته إلى غاية انتحاره بطريقة غريبة وغامضة رغم شهرته ونجاحه وقدرته على تجاوز صديقه ومعلمه الذي طالما تسكع معه في الحي اللاتيني بالعاصمة الفرنسية، فقيرا وكبيرا، كما ورد في كتابه الرائع الذي يحمل عنوان: باريس عرس، وهو أحد المؤلفات المهمة التي كتبها همنغواي عن سيرته الذاتية وتشرده ككاتب ومراسل حرب . وأتصوَر أن كثيرا من التلاميذ الخيَرين ظلوا أوفياء لأساتذتهم النيَرين، في الفلسفة والنقد والفقه والإبداع، والتاريخ مليء بهذه العينات، بداية من الدرس الفلسفي اليوناني مع سقراط وأرسطو، مرورا بالقطب والمريد في التجربة الصوفية الإسلامية وأخلاقياتها، كما في الممارسات البوذية وفي بعض الشعر القديم والجديد الذي لا ينكر التأثيرات والمرجعيات، ومن ذلك شعرنا الذي استفاد من تجارب عربية وغربية، قبل أن ينتبه إلى خصوصياته ويعمل على استقلالية جمالياته ببعض الوعي الذاتي والتنويه بقيمة المؤثرات المختلفة. ولعل المقولة الشهيرة التي تواترت بحدة في التداول الروسي: كلنا خرجنا من تحت معطف غوغول، تؤكد هذا الجانب الأخلاقي الذي يعترف بما قدمه السابقون، احتراما ووفاء لهم، وتقديرا لهم. وقد نجد الشيء ذاته في العلاقة بين لوكاتش وغولدمان، وبين فرويد وبيار داكو، وبين غريماس وتلاميذه. لا أقصد الموالاة أو الوفاء بمفهومه التبعي التبسيطي الذي لا يسهم في ترقية المختلف، أو النمطي المؤسس على الحفظ والاتباع والتبجيل والذوبان في الأصل أو النموذج، دون بذل الجهد الكافي لتجاوز التجارب من أجل التنوَع وإنتاج المعنى، بل العرفان بالسبق والمزية، أو بهؤلاء المؤسسين الذين كان لهم فضل ما، سابق على أفضالنا، مهما كانت طبيعته، ومهما كان لونه ومقدرته على التأثير في منجزنا، ثم سيحق لنا، بعد ذلك، الحديث عن التجاوز والتجريب والتثوير والتحديث والتجديد، وغير ذلك من المصطلحات التي عادة ما لا ترتبط بالمفاهيم والأنساق لأنها فضفاضة وبحاجة إلى نضج. العالم المتمدن الذي يعرف قدراته وحدوده يبني على الحلقية المعرفية الخالدة التي تعد سمة جوهرية غالبة، كما يشير إلى ذلك الناقد والمفكر تشيرنيشفسكي، ودون البنية الحلقية للإبداع لا يمكن الحديث عن تجربة مستقلة ولدت من العدم، كما يتعذر، من الناحية المنطقية، الحديث عن القطيعة والاستمرارية دون تمثل وتبصر. أمَا إحدى مشكلاتنا، العربية والجزائرية على حد سواء، فتكمن في البناء على المحو والنكران على كافة الأصعدة، ما يؤدي، بالضرورة، إلى جعل التجارب بنيات ذات علاقات صدامية ومتضادة من حيث إن اللاحق لا يوفي حق السابق ولا يقيم وزنا للمحايث والموازي في إطار الاستمرارية والتكامل، بحثا عن المثال. التفكير الأمريكي المعاصر الذي يهتم بالدراسات السردية التجريبية عمل على التنويه بالمرجع كحلقة مؤسسة يتعذر إغفال قيمتها التاريخية في المقاربة والتقعيد، رغم أنه بنى لنظريته الجديدة التي ستحل محل علم السرد، إن كتب لها النجاح لاحقا، على فلسفة سردية مغايرة لا ترتبط بالطابع الوصفي فحسب، أو بالاهتمامات اللسانية التي تقتصر على تفكيك تمفصلات المعنى من منظور محايد، بل بمجموعة كبيرة من العلوم والمناهج المساعدة على الإحاطة بالخطاب الأدبي، مبنى ومعنى، بيد أنه لم يمح الدرس الفرنسي الذي قدَم لعلم السرد زادا يصعب نكرانه أو تجاهل قيمته، أي أنه لم يتنكر للعبقرية السابقة التي كان لها الفضل في ظهور البحوث الجديدة التي ما زالت في طور المحاولة والتجريب، دون أن يدَعي المعرفة والحقيقة رغم جهوده المتميزة. أوردت العينات للتدليل على فعل التواصل والبناء على البناء، وليس على التخريب المستمر للمقدرة البشرية وعبقريتها، كما يحصل في التقاليد السياسية والعسكرية العربية التي لا تختلف، في منظومتها الشمولية، عن التقاليد الأدبية في بعض ممارسات الأجيال المتلاحقة، على اختلاف أيديولوجياتها ومرجعياتها الفنية والجمالية، ما يسهم، بالضرورة، في انقطاعات كبيرة ومتكررة لا تخدم التواصل، كما تقضي على كل أنواع الحلقات التي تسهم في إنتاج الحضارة من حيث إنها ضرورة ملحَة. إنني أتساءل أحيانا عمَا إذا كان بمقدور الباحثين المعاصرين مجتمعين تأليف كتاب من نوع الكشاف للزمخشري، أو كتاب النحو لسيبويه، أو المقدمة لابن خلدون أو تهافت التهافت، أو تهافت الفلاسفة مثلا. وقد ينطبق الأمر على حالات متعلقة بالرواية والقصة والقصيدة والتجربة السردية برمتها. لا يمكن أن نفرض على محمود تيمور أن يكتب قصة على منوال بورخيس، أو أن يكتب محمد حسين هيكل رواية زينب كما كتب بروست ونجيب محفوظ والطيب صالح وكاتب ياسين، أو أن تكون المقامة نسخا من قصص موباسان. لقد كتب هؤلاء انطلاقا من عصرهم، وتأسيسا على ما توفر من معرفة وتقاليد سردية وتقنيات وفلسفة ورؤى، ومع ذلك فهم موجودون كعلامات ليس من باب الأخلاق أن نخرَبها لأنها ليست من عصرنا، أو لأنها مختلفة عن تجربتنا. أتصور أن التربية تستدعي مراعاة السياقات والسبق والسنن والتحولات والمتون لأن الموت يترصد الجديد والقديم، دون التقليل من قيمة ما نبدعه في إطاره الخاص به، بمعزل عن المنوال. كما لا أتصور أدبا دون أدب، أدبا من هذا النوع المعتد الذي ينصب نفسه مرجعا مستأثرا بالجهد، كما في الحالة الجزائرية التي امتلأت بالنماذج، في الوقت الذي تعمل على خرق النموذج الذي تراه حاجزا، أي أن جزءا من الإبداع، أو أغلبه، أصبح يقوم مقام أصنام جديدة تشكل خطرا داهما على الأدب والأخلاق الأدبية معا، بصرف النظر عن حقيقة هذا الإبداع وقيمته الفعلية كممارسة فنية، وليس كعلاقات. هناك حالة متقدمة من تضخم الذات على حساب الإبداع، وعلى حساب طبيعة الأدب. أقصد ها هنا الأدب الذي يؤمن بالجدلية والنفي، إذ ليس من المستساغ أن تأتي التجارب الصغيرة لتنفي الموروث معتقدة أنها مراجع مؤهلة للحلول محل الاجتهادات السابقة برمتها، كما يحصل حاليا إن نحن تابعنا بعض التصرفات والتصريحات وما ينشر على صفحات شبكة التواصل الاجتماعي من تطاول على أسماء من الصعب نفيها، ومن المتعذر أحيانا الوصول إلى المستويات التي حققتها بفعل الجهد والتجربة. ثمَ إن البلد يتسع للقدامى والمحدثين والتقليديين والحداثيين وما بعد الحداثيين والأحياء والموتى والعباقرة والفاشلين، وليس من باب الأدب اختزال النجاح في ما نكتبه نحن، بنوع من التقديس، معتقدين بأننا وصلنا إلى مقام لم يبلغه غيرنا. لقد قال الكاتب العبقري هنري ميللر عندما بلغ الثانية والسبعين: الآن بدأت أتعلم معنى الكتابة. قال ذلك بعد سلسلة من الروايات والإبداعات المرعبة التي أحدثت تحوَلا سرديا واضحا في كل من أوربا وأمريكا. لكنه لم يخلق أسطورته بالتصريحات المجانبة للحقيقة الأدبية. النقد النزيه العارف هو وحده ما منحه ذلك الوسام الذي لم يتخذه كحصان طروادة من أجل شهرة مبتذلة يقف وراءها الجحود ووهم الأنا. لقد أصبح واقعنا شبكة من العقد والخرافات، ولم نستطع، بعد عشريات من الكتابة، أن نخلق نقاشا أكاديميا يخص الإبداع والنقد ومساراتهما ومراهناتهما. وأما السبب الأول فيرتبط بالمركزة الهشة التي لا تتكئ على ممارسة تجسدها الكتابة كجهد نوعي له كفاءة مركبة، بما في ذلك الكفاءة اللغوية والتخييلية والرؤيوية والأسلوبية. هناك، باختصار، اعتداء على الأخلاق السردية ببعض الممارسات التي لا صلة لها بالموهبة الفعلية، بهذه القدرة الاستثنائية على التميز، دون حذف الآخرين. كان علماء اللسانيات يقولون: المعنى يوجد في الاختلاف، وحيث لا يوجد اختلاف لا يوجد معنى، وهي الفكرة ذاتها التي نجدها في السيميائيات، وتحديدا ما ارتبط بالسردية كعنصر منتج للمعنى. لذا، من المهم السعي لتقوية التباين الدال على الخصوصية والتميز، بيد أن للتباين حدودا وزادا معرفيا مؤهلين لذلك، وأمَا الاختلاف الذي لا قواعد له ولا أثاث فلا يمكنه ترقية الكتابة، إن لم يصبح مرضا من إنتاج وهم المعرفة، أي من صنع الأنا المتضخمة، والأمثلة كثيرة. لا يمكن أن نصنع هالتنا معزولين عن المحيط والسياق والمعرفة والتراكم. والواقع أن كلا منا يمثل بنية صغيرة في بنية كبرى، أو بنية تحتية أو مجهرية تعد امتدادا، أو تناصا مع البنيات السابقة، ومقدمة لبنيات لاحقة قد تبني على منجزنا، إن كان ذا قيمة اعتبارية، لكنها قد تتجاوز تفاصيل وأجزاء غير ضرورية لسياقها، ومع ذلك لا يمكنها، مهما حاولت، محو الحلقات من حيث إنها واقع، بسلبياته وإيجابياته، بعقله وخرافته. من المهم، قبل الحديث عن محو الآخر، أو عن قتل الأب، وعن التجديد والخصوصية والتجاوز والقطيعة، أن نعترف أننا نتعامل بقاموس لم نسهم في وضعه، وبلغة أبدعها غيرنا بجهد وعبقرية، وبأساليب وتراكيب تناقلتها الأجيال، وبدلالات متوارثة، شأنها شأن الأبنية والأخيلة المتواترة في إبداعاتنا. أمَا نحن فقد عجزنا عن إبداع لفظ واحد. لذا يصبح احترام الآخر أمرا جوهريا لأنه قائم في حياتنا وفي أشكالنا التعبيرية وفي الكلمة والذاكرة والعلامة، وله فضل كبير علينا. إنه لمن قلة الأدب الحديث عن الأدب انطلاقا من النفي الجذري لهذه الحلقات التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه. إنما نحن مجرد نتيجة، حتمية ذات علاقة سببية نسبية بأفعال سابقة، وبمتخيل نحاول ترميمه أو استبداله في أطر أخلاقية تعترف بهذا الآخر الذي قد يشبهنا في نقاط، ويختلف عنَا في نقاط أخرى، لكنه ضروري لتقدمنا ولمعنانا.