هواجس نفسية مغتربٌ داخل الوطن.. كثيرا ما تحدثت لأصدقائي المقربين عن هواجس نفسية تحاول استقراء مستقبل آت لا محالة إن كان في العمر بقية فيه توجس وخيفة وهيبة أيضاً من مجابهة حياة ما بعد التقاعد. فيها صراعٌ بين العودة إلى مسقط الرأس من عدمه ولا غرابة للسجال في ذلك فحتى بعض الأسماك تجوب البحار والمحيطات والأودية لتعود حيث فقس بيضها لتبض وتبدأ دورة حياة جديدة. لكن عودتي إن كانت قد تكون عودة غريب نستهُ الجُدران والأبواب قبل الأهل والأحباب. قلت لنفسي: ستجد أحبة كثرا قد غادروا الحياة بينهم جيلٌ كامل من كبار السن كانوا قانون الحياة وضباطها وبينهم خلان وأقران قذفتهم الأقدار إلى غربة أبعد استحالة عودتهم بعدها. ومن بقى إما ردم جهاد العيش حالهم وغيّب تواصلهم أو حال بيني وبينهم جفاء السنين. آه يا زمن.. قد أجد بين صخور المنازل العتيقة التي تأبى الانهيار بعضاً من مقاومي الاندثار وفناء العطاء أجدهم بطيبتهم ومحبتهم وكرمهم في جلسات بسيطة على الرصيف قبالة البيت أو في أي شارع بالبلدة. ذلك الرصيف الذي كان مسرحا لليالي سمر جميلة أبطالها جيران واصدقاء تخندقوا في شوارع كثيرة هنا وهناك..كانت الليالي غالبا ما تنتهي بالنوم حيث كنا على الرصيف ليقوضنا ضجيج المارة في الصباح الباكر جدا: من يتأهبون إلى جمع لقمة العيش بالحلال على بساطة الحال. هناك حكايات كثيرة عن مغتربين في الداخل والخارج وعن محاولات العودة إلى الاصل. لم تنجح المحاولات في غالبيتها إلا للزيارة القصيرة الاشبه بمنام جميل سرعان ما يستفيق المرء منه على ضجيج المدينة يحي يعيش وحيث ازدحام المرور الخانق فيها. يستفيق أيضا على ما فاته من كثير النعم كاغتنام النظر إلى وجه الوالدين قبل أن يغادروا الحياة وهم لم يغنموا من بره الكثير. إن عدنا فأكيد أن كثيرا من المراسيم لن نراها لأن صناعها وأبطالها ببساطة غادروا. ولن يستطيع خلفهم تقليدها ولو حاولوا وفق ما يعرف اجتماعيا بصراع الأجيال فالجيل الجديد يحاول رسم تقاليد له في الحياة تميزه. وعلى ذكر بعض المشاهد التي علقت بذاكرة الطفل معي حفلات الأعراس أو ما يعرف محليا ب الحناء وهي كما يوحي اسمُها: تلبيسُ يد العريس بالحناء بعد حفل موسيقى غالبا ما يكون امام بيته وفي الشارع أين تحضر الفرقة الموسيقة كاملة مكمولة. الفرقة الهاوية عناصرها ذوي مستوى ثقافي وتعليمي مشهود ومِهنُهم محترمة جدا. بعد العشاء الذي لا يعني شريحة الأطفال وبعض الشباب غير المدعوين تبدأ عملية ضبط الأجهزة الموسيقية والصوتية وهنا يتكرر تجريب الصوت من خلال العدد من واحد إلى ثلاثة باللغة الفرنسية في الغالب حتى كاد ينطبع في مخيلتي وقتها أنها جزء من كلمات الأغنية. وعلى ذكر الاغاني فغالبتها من التراث والشعر المحلي وبعض الأغاني الرائجة وطنيا وقتها. يا الرومية.. كانت أغنية الله الله يا الرومية بيضتي يا البيضا قلبي تلهب مساحة الرقص المحتدم والذي يحوي كثيرا من السكارى وعلى غياب وعي بعضهم إلا أنهم لا يترددون في طردنا من مجمع الحفل بعد التاسعة أو العاشرة مساءً مخافة سؤال الأهل عنها وعن سبب تأخرنا. رحلة الكر والفر نسترق فيها السمع إلى الكلمة المشهورة أرجا بمعنى توقف يقولها المغني معلنا عن ورقة نقدية تكون قد وصلته من أحد الحضور يريد بها توجيه تحية خاصة لبعض أحبابه المتواجدين أو الغائبين عن الحفل وأكيد فيها تحية أخرى للعريس ولأعضاء الفرقة لتحيتهم وتشجيعهم. نسير إلى المنازل والليل يرخي سدوله وصوت العلاجية أي الفرقة الموسيقية ينخفض شيئا فشيئا متى ما ابتعدنا وبالمقابل يعلو صوت آخر في النجوى يتوقع من ذا الذي سيفتح باب المنزل بعد طرقه بشكل خفيف وبعدها السؤال المشهور أكثر من أغنية الموسم أين كنت حتى الآن؟. لا يسألك عن عشائك إلا أمك والتي تراقب طريقة أكلك بالسرعة والشراهة المتلازمتين وفيها يقينٌ كما توقعت أن الجوع يؤلم أحشاءك بعد زوال مخدرات أجواء الفرح الذي كنا نتطفل على حضوره كما كان أشعب يتطفل على الولائم والموائد. حكايات الزمن الغابر قذفتنا الأقدار إلى ما بعد سن الرشد وتجاوزنا الأربعين وأكيد أن أطفالنا لن يكونوا بذلك المنظر ولا بطريقة النظر الى الحياة. وإن حدثناهم عنها خالوا أننا نحكي حكايات علي بابا أو سندريلا أو حكايات الزمن البعيد الغابر. ونحن حين نحاول العودة إلى ذلك الزمن الجميل ولو بأحلامنا فأننا نحاول العودة لبعض الإنسان فينا وان كنا لا نستطيع فخط الحياة مستقيم ونقطتي البداية والنهاية لا تلتقيان. بعض المشاهد من الحقبة البعيدة مازالت والحمد لله: أبطالها الكتاتيب وإن تغيرت بعض الملامح ففي زمننا كان كثيرون يتشرفون بفتح مستودعات أو فضاءات لهم لمشايخ تحفيظ كتاب الله ودون مقابل وتزيد أوقات التدريس اكثر في زمان العطل. اتذكر الشيخ بلعدل رحمه الله وأتذكر عصاه الطويلة ويتذكر اقرأني وقت الفلاقة بعد أي تجاوز غير محمود في الحفظ أو في السلوك. حلاوة مجمع الدراسة بالكتاتيب تزيدها الأطباق التقليدية التي تسمى معروفا ترسلها الامهات تشجيعا لحلقة الذكر والتحفيظ. في مدينتي كثير من الكتاتيب ومدارس القران الآن جاد أصحابها بالمكان والوسائل ومنهم من هم في ديار الغربة جعلوها عنوانا للصدقة الجارية وتذكاراً لهم بزمان الطفولة التي طبعها الذهاب والمجيء إلى العربية كما كانت تسمى. عند ختم كل حزب من القرآن يقوم الشيخ -وبحبر الصوف المحروق- بتزيين اللوح المنبعثة منه رائحة الصلصال المستعمل في مسح كل المكتوب. كنا نجوب البيوت ونجمع القطع النقدية عربون الفوز والتشجيع ربما تكون هدايا الآباء في ذلك الآن أكثر ثمنا وزينة لكنها تبقى كما كانت تهدف إلى مليء الصدور وتعويد اللسان على الذكر وكلام الله. عندما كانت كل المناسبات جميلة كانت كل المناسبات جميلة حتى المآتم على وقع حزنها كانت تعرف حملات التضامن والمساعدة من القريب والبعيد. أتذكر أن أقفال الأبواب كانت رمزية وهل تصدقونني إن قلت أن بيوتا كانت لا أقفال لها وكانت في غالبتها تحوي أشجارا مثمرة كالمشمش أو العنب أو اليمون أو بعض الأعشاب الطبية وريحها يزيد مع سكون الليل والمبيت في بهو المنازل في الهواء الطلق. كانت الأسطح من القرميد الذي يبعث برودة منعشة في الصيف الحار والتي لا تعترف بما تفعله المبردات الآن. أقول في نفسي: لو أنِّي خُيِّرت طلبا في الجنة على كثير نعمها التي ما رأت عين مثلها لاخترت إعادة نفس سيناريو العيش القديم بكل تفاصيله وأبطاله الذين مروا في حياتي حتى ذلك الإسكافي الذي يتوسط الشارع القديم العتيق بالبلدة بأدواته البسيطة وبلامساته الصحيحة في الترقيع اريد أن أراه جددا يسألك عن اسم ابيك وعن حال الدراسة معك ويشدد على المراجعة والتحصيل ومسامير العمل في فمه بالمقابل أراقب خروج كل مسمار من فمه قبل تثبيه على الحذاء. ذلك الحذاء ضحية ملاعب كرة القدم بين في الشوارع التي شهدت الكثير من الحوادث الجسدية الراسخة في مخيلتي: بما فيها اقتلاع أظافر الأرجل وتشويه حالها لتبقى شاهدة على المشهد طول العمر. لم تكن قريتنا بهذا الكبر الذي فيها الآن: لكنها كانت منظمة نظيفة وهندام الناس فيها كذلك. شبكة مياه الشرب أعذب والبساتين المترامية معطاءة. كانت شقاوة الطفولة تستهوي بعض المغامرات الطريفة أتذكر في يوم صيفي حار مروري وصديقي الطويل بجوار بستان يلقي ببعض ثمار الهندي الشوكي بين أوراق الصبار اتفقنا على جني بعض المحصول وجلبنا دلوا وبعض أكياس الحليب البلاستيكية المستعملة لنتقي شر شوك التين. وصعدت على كتف مرافقي وبدأت الجني فيما كان الصديق يركز على اختيار الاكبر والأنضج منها حتى امتلىء الدلو ومن يدي إلى يد صاحبي إلى الأرض وبينما هممت بالنزول باغتنا صاحب البستان ففر صاحبي فجأة وبقيت معلقا بالجدار وصوت غليض يقترب مني بكلام الوعيد والتهديد جعلني اسقط فاهرب دون تفكير ونبضات القلب تكاد تفجر الشرايين بداخلي. انتهى المشهد وبعد مدة عاد صديقي ليعود بالدلو كما هو بثماره بعد مغادرة صاحب البستان دنما انتباه منه إلى التين والدلو. بقيت هاته القصة عربون صداقة بيننا نتهم فيها بعضا مزاحاً بالتخاذل إما في الهروب أو عدم الرجوع. أكيد أن حكايات الطفولة في كثير من القرى الأخرى تتشابه ومعها كثير من الظنون الآن التي ترى أن من أخرجنا من تلك البساطة كان يقصد ذلك وبمكر شديد.