ترك لنا السابقون آثارا تدل على تقدمهم وثرائهم، إلا أن آثارهم تلك كانت الشاهد على هلاكهم ونهايتهم السيئة، من هذه الأمم أمة عاد وقوم لوط وأهل بومبي، تلك الأمم التي كذبت الرسل وتمادت في المعاصي بلا رادع، حتى أهلكهم الله بعذاب أليم، وسنعرض موجزا لقصة هلاكهم، لعلها تذكر الطغاة والكافرين أن الله شديد العقاب، وأنه سبحانه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء· هلاك "سدوم" قال تعالى: (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ· إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ· نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ· وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ)· على حدود فلسطين أقصى جنوب البحر الميت، كانت هناك قرية تسمى (سدوم)، تلك القرية التي تعاظمت في ارتكاب الفاحشة لاسيما بين ذكورها، فهم أول من تجرأ على تلك الفاحشة إذ لم يسبق لأحد أن فعلها من قبلهم· ومن رحمة الله أن أرسل إليهم نبيه (لوطاً) عليه السلام ليهديهم ويخرجهم من ظلماتهم إلا أنهم كذبوه وأرادوا أن ينفوه خارج البلاد (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) واستمروا في عصيانهم وشذوذهم غير المعهود، فأصابهم من الله العذاب الأليم· وقد أخبرنا القرآن الكريم أن الملائكة جاؤوا إلى سيدنا لوط عليه السلام قبل الصاعقة التي ستهلك الجميع لينذروه ومن معه من المؤمنين (قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) فأهلكهم الله جميعا إلا لوط عليه السلام وأتباعه· أما عن العذاب الذي أصابهم فقد آتهم صبح اليوم المحدد لهلاكهم في صورة زلازل وبراكين هائلة، جعلت الأرض تنشق وتبتلع كل واحد منهم بل وابتلعت بيوتهم أيضا، (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنضُودٍ· مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ)· هلاك "بومبي" أقيمت مدينة بومبي أسفل جبل بركاني يعرف بجبل العبرة بإيطاليا، وقد عرفت بومبي بالإمبراطورية الرومانية، بدت عليها مظاهر الثراء بشكل مفرط، وبدل أن يشكروا الله على نعمه إذ بهم يفسقون ويمارسون الفواحش كسابقتهم (سدوم) حتى صارت المدينة مستنقعا للرزيلة· كانت الإمبراطورية الرومانية مميزة بظاهرتين أولهما (المصارعة) والتي كانوا يقيمونها بين البشر وبعضهم أو بين البشر والحيوانات مهما كانت نتيجتها، وفي الجهة الأخرى يجلس أغنياء المدينة يتضاحكون مسرورين بمنظر العنف والدماء الجارية في كل مباراة· أما ثانيهما فكانت متمثلة في طبقة (العبيد) الذين كانوا يعاملون كبهائم، يجبرهم أسيادهم على ممارسة الفاحشة بكل صورها· ولأنهم تجاوزوا حدود الطغيان والكفر، سلط الله عليهم العذاب، فقد أرسل الله عليهم الحمم البركانية من كل حدب حتى غطت تلك الحمم المدينة بأسرها، فلم تترك لهم أثراً مدة ألفي سنة إلى أن اكتشفت آثارها العجيبة في الربع الأول من القرن العشرين· فبعد أن أزيلت طبقات الرماد البركاني ظهرت آثار المدينة كما لو كانت حديثة العذاب، فترى أجسادهم المتحجرة على اختلاف الوضع الذي تحجر عليه كل واحد منهم، ترى أسنانهم، ترى حتى الطعام كما هو، ملامحهم المعبرة عن الرعب والفزع من هول وقع العذاب عليهم· (إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ· يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ· أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ)· هلاك "إرم" كشف عالم الآثار الهاوي (نيكولاس كلاب) عن آثار مدينة إرم التي وقعت في صحراء الجزيرة العربية والتي كان أهلها يسمون بالعرب المحظوظين، إذ كانوا يستخرجون من شجرة قديمة مادة عطرية نادرة يبيعونها، وكانت تدر عليهم من المكاسب الكثير· وعلى الرغم من أن قوم عاد كانوا يعيشون في صحراء مغدقة إلا أنهم تمتعوا بأنواع مميزة من الثراء والرفاهية، فتميزت مدينتُهم بالعمارة الفخمة والأعمدة العالية والطبيعة الخلابة التي لم تعرف بها مدينة من قبل (إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ· الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ)· ولكنهم لم يتعظوا مما أصاب الأقوام من قبلهم، ففسدت أخلاقهم وانهمكوا في الفواحش والآثام، وكذبوا نبيهم الذي أرسل إليهم، حتى أرسل الله عليهم عذابا مميزا ليناسب تميزهم عن سائر الأقوام، فسلط الله عليهم الريح الشديدة المتوالية سبع ليال وثمانية أيام تعصفهم ذهابا وإيابا· ولأن البلدة محاطة بجبال رملية لوقوعها في منطقة الأحقاف -أي تلال الرمل المعوجة- فقد أثار الريح الرمال لتغطي المدينة كلها بعمارتها الفارهة وأعمدتها العملاقة وأهلها الفاسقين، ودفنت الناس تحتها أحياء لا حول لهم ولا قوة على ردعها، فانمحت المدينة من الوجود إلى أن اكتشفها الأثريون (وَاذْكُرْ أَخَا عَاد إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالاَْحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللهَ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْم عَظِيم· قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّدِقِينَ· قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُم مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّى أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ· فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ· تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْء بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُواْ لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِى الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ)· وبعد فالمتأمل لحال الأمم السابقة التي أصابها العذاب سيجدها مشتركة في عدة صفات: - الثراء والغني - ممارسة الفواحش والآثام والكفر والعناد - عدم اتباع الرسل وتكذيبهم والاستهزاء بعذاب الله· - أنزال الله العذاب عليهم جميعا· - أراد الله أن تنمحي آثارُهم، ثم أراد لها سبحانه الظهور في وقت محدد لذلك، لتكون عبرة للأمم الحاضرة· وختاما نؤكد أن كل أمة طاغية ناسية لله متهاونة في حقه سبحانه، سوف يأتيها العذاب الذي يأذن به الله تعالى لها، فالآن لا رسل لتنير الظلمات، فقد انكشف نورُ الإسلام وسطع في العالم أجمع، واستبان الحق وضده الباطل أيضا، فهذه الأمم التي أهلكت لم تكون عبرة لبعضها البعض إنما هي عبرة لأمم آخر الزمان الذي نحن فيه الآن، إنها عبرة لنا جميعا· (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين· هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين)· * بعد أن أزيلت طبقات الرماد البركاني ظهرت آثار المدينة كما لو كانت حديثة العذاب، فترى أجسادهم المتحجرة على اختلاف الوضع الذي تحجر عليه كل واحد منهم، ترى أسنانهم، ترى حتى الطعام كما هو، ملامحهم المعبرة عن الرعب والفزع من هول وقع العذاب عليهم· (إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ· يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ· أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ)·