* ما تفسيرك لظاهرة الحركات التصحيحية التي صرنا نلاحظ انتشارها في مختلف الأحزاب السياسية؟ ** الحركات التصحيحية هي نتيجة غياب التماسك الفكري والإيديولوجي ونتيجة غياب مدارس فكرية لدى الأحزاب، أي غياب الهدف الأول الذي ينبغي لها أن تسعى لتحقيقه والذي يتمثل في صناعة الأفكار والرجال. هل هناك تكوين فكري لدى الأحزاب؟ هل هناك إنتاج فكري في شكل محاولات لفهم الواقع وتصحيحه من منطلق المبادئ التي يعتنقها كل حزب؟ هل هناك رؤية متبلورة لدى النخبة التي تقود الأحزاب إلى حاضر والمستقبل؟ كل هذه العناصر غير متوفرة وبذلك فلا نجد روابط متينة بين المناضلين تمنع انفصالهم عن بعضهم البعض أو تكون بمثابة الخط المرجعي الذي يعودون إليه عند احتدام التنافس أو اختلاف الرؤى. والمعضلة في رأيي تكمن هنا، وعندما تصبح حتى القيادة السياسية للحزب من غير رؤية ولا تحمل مشروع أفكار فإن كلّ شيء يصبح ممكنا. وفي الحقيقة لم أستطع لحدّ الآن أن أجد من يصوغ لي عبارة تحمل فكرة تبرّر انقسامه أو خروجه عن الآخر، كلّ ما في الأمر هي حسابات شخصية وخلافات حول الزعامة والمصالح ومن يقود من، بل هي خلافات في الرواتب والمراتب أكثر ممّا هي خلافات في الرّوابط، هذا هو أساس الانقسام و سبب بروز التصحيحيات هنا وهناك. * لكن كيف تفسّر ظهور حركات تصحيحية لدى حزبي السلطة اللذين تحصّلا على أغلبية المقاعد البرلمانية في حين أن المنطق يقول إن الحزب الفائز سيكون متّفقا لا محالة؟ ** كما أسلفت، حزبا السلطة أيضا لا يحملان مشروعا فكريا يدمج العناصر المكوّنة لكلّ حزب ويخلق اللّحمة بين المناضلين، جبهة التحرير التي كانت تستمدّ مشروعها الفكري من أدبيات الثورة لم تطوّر هذه الأدبيات وفق متطلّبات الرّاهن ولم تجدّد أطروحاتها الفكرية لكي تستطيع أن تقود لخمسين سنة أخرى، بقيت ضمن نفس الخطاب الذي عاشت بها طيلة الخمسين سنة الماضية وهو دليل عقم فكري ناتج عن عدم تجديد مدرسة جبهة التحرير الفكرية التي لها جذور تمتدّ إلى التيّار الفكري المناهض للاستعمار منذ القرن التاسع عشر، أمّا التجمّع الوطني الديمقراطي فلم يتمكّن من وضع نفسه ضمن سياق مدرسة فكرية منذ تأسيسه. كانت هناك محاولات أولى جاء بها زخم التأسيس لوضعه ضمن امتدادات الحركة الوطنية إلاّ أن ذلك لم يتحقّق، وبسرعة سيطرت الأهداف المرحلية والآنية والمصالح الضيّقة على توجّه قيادات الحزب فتحوّل إلى تنظيم فاقد للعقيدة الفكرية التي يمكنها أن تمنع أيّ انزلاق، فهو تنظيم تميّز بين عناصره الرواتب والمراتب كما أسلفت وليس الرّوابط الفكرية والقناعات السياسية، لذلك نلاحظ فيه اليوم هشاشة في التوازن، ممّا يسمح بالتنبّؤ بسهولة اضمحلاله وانتهائه. * في رأيك هل يمكن القول إن الحركات التصحيحية دليل على الصحّة السياسية بتجسيدها لمنطق الاختلاف بغض النّظر عن دوافعها؟ ** بل هو دليل على مرض سياسي وعلى عقم الأطروحات وعدم التماسك الفكري لمن يدّعي اليوم انتماءه إلى النّخبة السياسية، ودليل على تردّي مستوى الأحزاب السياسية التي لا تقوم على أيّ قواعد صلبة من التفكير والنضال والعمل السياسي البعيد المدى وكلّ تلك القيم التي تحكم عادة النّضال السياسي من إيثار ونزاهة وعدم طلب المسؤولية... الخ. أمّا اليوم فقد أصبح الخروج عن الحزب وعن قيادته والطعن فيها أسهل الحلول، فبمجرّد عدم تحقيق الغاية الشخصية التي يكون المنتمي إلى الحزب قد حدّدها ينفصل ويعلن حركة تصحيحية، هذا تردّ غير مسبوق ودليل مرض خطير أصاب من يسمّون أنفسهم بالمنتمين إلى أحزاب سياسية، وأنا في رأيي الصراعات الحزبية مجرّد خلافات حول مصالح ضيّقة وشخصية ومحدودة وأحيانا لها علاقة بحسابات ظرفية تنّم عن محدودية رؤية وطمع غير مبرّر. * ما قراءتكم للتمرّدات والاختلافات التي ترفض بعض الأحزاب الاعتراف بها كما هو الحال في حمس؟ * رفض الاعتراف بالانشقاق في رأيي هو عجز عن الخروج من الواقع الذي يتعلّق بعقم فكري وجمود على مستوى الأفكار، وعجز على تقديم رؤية ورسم استراتيجة تجمع الكلّ حول أساليب تحقيقها، هذا العجز يتجلّى بسرعة في ظاهرة تصحيحية هي نفسها تحمل بذور الانشقاق، وفي رفضٍ هو نفسه دليل على عدم القدرة على تفنيد انحراف الآخر لأن الآخر لم يبرّر خروجه بتحليل عميق للرّاهن الفكري والسياسي، ولو قام به لوجدنا سجالات فكرية وثقافية وإيديولوجية قبل الحديث عن أيّ انقسام، وقس الحقيقة ما أتابعه هو مجرّد سجالات صبيانية هذا يتّهم ذلك بالانحراف عن الخطّ في الوقت الذي تمّ فيه نسيان طبيعة هذا الخطّ أصلا. * ما رأيك في طريقة تعامل بلخادم مع معارضيه خلال اجتماع اللجنة المركزية يومي 15 و16 جوان؟ ** هو عمل تقليدي تعوّدت قيادات الحزب عليه، ويدلّ على أن السياسة أصبحت تمارس بالحيلة وليس بالصراع الفكري والقدرة على الإقناع وتقديم أفضل الأفكار. لا يمكنني أن أسمّي انتصار أيّ طرف انتصارا أو هزيمة أيّ طرف هزيمة باعتبار أن المسألة تتعلّق بتحريك المواقف وليس بتحرير الحزب من ضبابية الرؤية والعودة به إلى المسار الصحيح. * هل تتوقع بروز أحزاب جديدة من رحم الأحزاب الموجودة في ظل كثرة الاختلافات والثورات؟ ** وما الفائدة من ذلك؟ في رأيي إذا لم يكن الحزب نتاج تحول في الفكر والعمل فلا فائدة منه لأن الحزب ينبغي أن يكون نتاج إرهاصات فكرية ويمثل قطيعة في العمل الحركي مع ما سبق ومع ما هو موجود في الساحة، أمّا إذا كان الحزب يتحرّك ببرنامج مستنسخ أو أُعد من طرف محترف في صياغة البرامج ولا يمثّل أيّ قطيعة فكرية أو حركية فما الفائدة منه؟ ولو نطبّق مقياسي الولادة الفكرية والتحوّل في الحركة هل سينطبق على أيّ من الأحزاب؟ هل يمثّل أيّ من الأحزاب ولادة فكرية أو نقلة جديدة في حركية عمل سياسي سابق؟ لا أظنّ ذلك، إذم فكلّ الأحزاب التي نشأت أو ستنشأ خارج هذه الخصائص إنما هي مجرّد لعب ولهو ولا أرى فائدة منها. فلا يكمن لحزب أن ينشأ من غير أن يسبق نشأته نقاش واسع حول رؤيته بجميع تفاصيلها ودون أن يحدّد لنفسه مجال حركته في المستقبل.. هذا لم يحدث لحدّ الآن في الجزائر.