يزدحم الوضع الليبي الراهن بدلائل ومؤشرات موضوعية تنذر بثورة على (ثورة 17 فبراير) التي حوّلت ليبيا إلى (دولة فاشلة) حسب (مؤشر الدول الفاشلة) لعام 2012 الذي يصدره (صندوق السلام) الأمريكي سنويا ويستعد لإعلان النسخة الثامنة من المؤشر للعام الحالي في الثالث عشر من جويلية المقبل في العاصمة الأمريكيةواشنطن، وسط تقارير إعلامية تقارن عدد قتلى وجرحى ما يصفه بعض هذه التقارير ب(الحرب الأهلية (القبلية) بعدد الضحايا المدنيين في سوريا، لكن دون أي تحرك دولي ل(التدخل الإنساني) من أجل حماية المدنيين الليبيين من (ثورة) حظيت بتدخل لنصرتها من حلف (الناتو) بتمويل نفطي خليجي سخي بحجة (حماية المدنيين). وإنها لمفارقة حقا أن تضطر الأممالمتحدة في السابع عشر من الشهر الحالي إلى الإعراب عن (القلق) من (تجدد القتال) في ليبيا لتناشد سلطات الثورة (حماية المدنيين) في بيان رسمي أصدره الممثل الخاص لأمينها العام إيان مارتن، بعد أن فوض مجلس أمنها حلف الناتو بالتدخل العسكري في ليبيا بحجة حماية المدنيين التي اتخذ منها الحلف ذريعة ل(تغيير النظام) باللانظام الحالي الذي تحوّل المدنيون الليبيون في ظله إلى أول ضحاياه. ويبدو المسؤولون في طرابلس الغرب اليوم مدركين لحراجة الوضع الراهن وحساسيته حد التطير، بحيث يعتبر رئيس الوزراء د. عبد الرحيم الكيب أن وثائق سرية وأجهزة إلكترونية) اتهم المحامية الاسترالية المسؤولة بمحكمة الجنايات الدولية، مليندا تالور، بنقلها إلى سيف الاسلام القذافي في سجنه بالزنتان تهديدا ل(الأمن الوطني) يسوغ اعتقالها وافتعال أزمة مع المحكمة الدولية التي تمثلها اضطرت مجلس الأمن الدولي إلى إصدار بيان في منتصف الشهر الجاري يطلب فيه من ليبيا الإفراج الفوري عنها وعن ثلاثة من زملائها لبناني وروسي وإسباني. فحسب المؤشر المذكور، تخطت ليبيا (61) دولة في قائمة الدول الفاشلة لتحتل المرتبة الخمسين في مؤشر عام 2012 بعد أن كانت تحتل المرتبة (111) في مؤشر عام 2011 السابق، لتسجل بذلك أكبر تدهور خلال سنة واحدة لأي بلد واحد في تاريخ المؤشر. والمؤشرات (الداخلية) لا تقل أهمية عن (مؤشر الدول الفاشلة) الخارجية، ومنها (بيان رقم 1) الذي أصدرته (حركة الضباط الأحرار) بتوقيع (عقيد) لم يذكر اسمه في الحادي والعشرين من الشهر الحالي، حيث أشار البيان إلى (الفوضى العارمة والدماء التي تسيل) و(العهر السياسي والاقتصادي) و(الإقصاء.. لقرابة نصف المواطنين وتهجير مليون ونصف) و(عشرات الآلاف من.. رفاقنا الأسرى)، واعدا (الضحايا الذين انساقوا وراء.. الطغمة العميلة الفاسدة) بأن (شرا لن يصيبهم) إن هم (دخلوا بيوتهم)، ومؤكدا ل(المجتمع الدولي ومجلس الأمن) بأن الثأر (لكرامة الوطن وشرف العسكرية) الليبية (يخص ليبيا ومشاكلها الداخلية) لكنه لا يمس (احترام كافة المواثيق الدولية والالتزام بها). ويوم الخميس الماضي صدر بيان في القاهرة عن عدد من السفراء الليبيين (الذين انحازوا إلى الثورة الشعبية من بدايتها)، ومنهم عبد المنعم الهوني سفير ليبيا الحالي لدى مصر وممثلها في جامعة الدول العربية بالقاهرة، اعتبر أن ثورة 17 فبراير (انحرفت) عن مسارها، وقال إن (الأوضاع الراهنة.. لا تتناسب مع طموحات وأهداف الثورة) لأن (ما يحدث الآن من تكالب على السلطة وتصفية للحسابات ونهب واضح للمال العام.. وانغماس هياكل الدولة الرسمية في شرعنة هذه الممارسات يدفع إلى التساؤل: هل هذا ما قامت من أجله الثورة؟) (القدس العربي في 23/ 6/ 2012). ومن المؤشرات أيضا، كمثال آخر، البيان الذي أصدره (شباب الثورة) في بنغازي في السادس من هذا الشهر وطالبوا فيه بتأليف (لجنة نزيهة تحت رعاية دولية للتحقيق في كافة الملابسات التي حدثت منذ يوم 13 فبراير في بنغازي وحتى سقوط سرت وبني وليد)، وبمعرفة (حقيقة المجلس الانتقالي، ومن أين أتى، ومن قام باختيار أعضائه، ودور فرنسا والسفير الأمريكي والبريطاني والفرنسي في ذلك وقطر)، و(كم ترك لنا الطاغية من أموال) و(عدد الضحايا من الجانبين) و(خسائر القوات المسلحة) و(عدد الجرحى والأسرى والمهجرين..؟)، قبل أن يخلص البيان إلى القول إن (أيدينا جميعا ملطخة بالدماء المحرمة من أجل سلطة لعينة يبدو أننا سوف لن نراها، ومطالب لنا لن تتحقق). إن غياب الدولة وتحولها إلى بلد تحكمه ميليشيات المدن والقبائل التي يأخذ بعضها بخناق بعض، ومنازعات المناطق والمدن فيما بينها، وصراع الإسلام السياسي والعلمانيين، هو واقع تتوالى الدلائل عليه ولم يعد إثباته بحاجة إلى اعتراف وزير الحكم المحلي محمد الهادي الهاشمي الحراري بعدم وجود (أي بنية تحتية) في ليبيا وبانتشار (الفساد) وبعدم وجود (ثقة للشعب في النظام) الذي تمخض عن 17 فبراير. وكان احتلال مطار طرابلس الدولي، ومهاجمة موكب السفير البريطاني في بنغازي وقصف القنصلية الأمريكية واجتياح القنصلية التونسية ومقر الصليب الأحمر الدولي وتدمير قبور محاربي الكومنويلث فيها، إضافة إلى الاقتتال الأهلي في الكفرة وسبها وجبل نفوسة، وتقارير منظمة العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش عن (السجون السرية) وانتهاكات حقوق الإنسان التي وصف بعضها ب(جرائم حرب)، واغتيال القاضي الليبي الذي أمر باعتقال رئيس أركان (جيش الثورة) السابق اللواء عبد الفتاح يونس مما قاد إلى اغتياله والتمثيل بجثته، كان ذلك والكثير غيره مجرد أمثلة حديثة على فوضى اللانظام الحاكم في ليبيا. والمفارقة أن المليشيات وقادتها يصفون أنفسهم بأنهم (حراس الثورة)، بينما اضطر اللانظام غير الحاكم باسم (ثورة 17 فبراير) في ديسمبر الماضي إلى السماح بعد تردد للمرتزقة الغربيين بسد الفراغ الناجم عن غياب الدولة التي هدمتها (الثورة) ودمر حلف الناتو بناها التحتية لحماية آبار النفط ومنشآته وشركاته الدولية ورموز اللانظام ومكاتبهم ودورهم، ومن هؤلاء المرتزقة المعروفين باسم (المتعاقدين الأمنيين) الذين حصلوا على (عدم ممانعة) للعمل في ليبيا (مجموعة بلو ماونتن) و(مجموعة كونترول ريسكس) وشركة (جاردا للأمن العالمي). والمفارقة الأكثر إثارة للاستهجان أن بلدا هذا هو حاله يجد نفسه مؤهلا لتصدير ثورة تدمير الدولة وغياب السلطة المركزية وفوضى المليشيات والاقتتال الأهلي والاستقواء بالأجنبي والدعوة إلى تدخله العسكري إلى سوريا، حيث يصدر لها الأسلحة والمقاتلين الذين يفتتح على أراضيه مراكز لتدريبهم، على ذمة السفير الروسي لدى الأممالمتحدة فيتالي تشوركين، و(يتبرع) لنظرائهم السوريين ب(100) مليون دولار (معونة إنسانية). (إن التفسير الوحيد ل(تصدير الثوار) الليبيين إلى سوريا هو محاولة مدروسة للتخلص منهم بعد أن فشل استيعابهم والسيطرة عليهم في الداخل، ولأن تصديرهم لا يمكن أن يكون قرارا ثوريا ليبيا فإنه على الأرجح قرار أجنبي، غربيا كان أم عربيا، الذي سخرهم لخدمة أهدافه في ليبيا ثم قرر التخلص منهم بعد أن أصبحوا عبئا عليه!!. نقولا ناصر