بعد أن طال ليل الظلم في بورما مسلمون يتوعدون البوذيين بالجهاد تعيش العلاقات بين أتباع الديانتين الإسلامية البوذية في شرق آسيا فصلاً تاريخياً محزناً جراء المذابح التي ترتكب في ميانمار، بورما سابقاً، من قبل متطرفين بوذيين ضد مسلمي أقلية (الروهينغا)، ويخشى من أن تضفي دعوات الجهاد في ميانمار مزيداً من التعقيد على الصراع، ينسحب على العلاقات التاريخية بين أتباع الديانتين. تجدد المذابح وعمليات التطهير العرقي ضد الأقلية المسلمة في ميانمار، ولاية راخين (إقليم أراكان سابقا)، بدأ يتخذ أبعاداً أشد خطورة تهدد باتساع المواجهات بين المسلمين والبوذيين في منطقة شرق آسيا، بخروج مظاهرة في جاكرتا عاصمة إندونيسيا، أكبر دولة إسلامية، رفعت فيها شعارات متطرفة مثل (نريد قتل البورميين البوذيين)، وأعقب المظاهرة التهديد بإعلان الجهاد في ميانمار لمساعدة الأقلية المسلمة المضطهدة هناك. وتشمل تلك المخاطر تأثر أوضاع الأقليات المسلمة في دول المنطقة ذات الأغلبية البوذية، وبالمقابل تأثر أوضاع الأقليات البوذية في دول المنطقة ذات الأغلبية المسلمة، مثل إندونيسيا وماليزيا وبنغلادش الأكثر تأثراً بأحداث المذابح والتطهير العربي في ميانمار، وفي شكل عام العلاقة بين أتباع الديانتين في العالم أجمع، الذين اتسمت العلاقات فيما بينهم خلال ثلاثة عشر ونصف قرن بالتعايش في طابعها الغالب، رغم ما شابها في بعض الحقب من احتكاكات بقيت محصورة زماناً ومكاناً. وفي الظروف المستجدة يصبح الحوار بين معتنقي الديانتين حتمية لمحاصرة الأفكار المتطرفة في صفوف الفريقين، والعودة إلى مبادئ التعايش السلمي بمعالجة العوامل الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتاريخية، التي تشحن العداء والعنف. لقد اندلعت أعمال العنف الأخيرة عقب فشل تحركات فريق الاتصال التابع لمنظمة التعاون الإسلامي المعني ببحث أزمة مسلمي ميانمار ومنظمة (آسيان)، وجهود محدودة للأمم المتحدة، لم تتعاون معها حكومة ميانمار التي توجه لها أصابع الاتهام بالتواطؤ مع المجموعات البوذية المتطرفة التي تعتدي على الأقلية المسلمة. ويخشى من أن تمتد المواجهات إلى مناطق أخرى في ميانمار خارج ولاية راخين (أراكان) يقيم فيها مسلمون من (الروهينغا) كمواطنين منذ مئات السنين، وهو ما ينذر بتحول المواجهات إلى استهداف ممنهج على أساس طائفي وعرقي. المجتمع الدولي يتفرج ويتحمل المجتمع الدولي مسؤولية كبيرة في استمرار المذابح وعمليات التطهير العرقي بحق (الروهينغا)، حيث لم تتخذ الأممالمتحدة، أو أي من المنظمات القارية الفاعلة في شرق وجنوب شرق آسيا، خطوات تكفل قيام السلطات في ميانمار بواجبها في حماية الأقلية المسلمة، ومعاقبة مرتكبي تلك الجرائم ضد الإنسانية وتقديمهم للمحاكمة، وتوقف حكومة ميانمار عن خطابها العنصري التحريضي الذي يسقط عن المسلمين (الروهينغا) حقوق المواطنة، ويتعامل معهم كمهاجرين غير شرعيين يجب ترحيلهم إلى دول الجوار، دون الالتفاف إلى عواقب ردود الفعل داخل الدول الإسلامية التي تضم أقليات بوذية، وبدأت تتعالى فيها أصوات مجموعات متطرفة تدعو للانتقام من البوذيين، مما قد يشعل المنطقة بأكملها بحروب طائفية وعرقية. والسيئ في الأمر أن حكومة ميانمار استغلت ردود الفعل الإقليمية والإسلامية والدولية الضعيفة، فواصلت سياساتها التمييزية ضد الأقلية المسلمة، وامتنعت عن تلبية النداءات لها باتخاذ معالجات جذرية توقف الأزمة وتمنع تكرارها، لنزع فتيل امتداد الاحتقان بين المسلمين والبوذيين إلى خارج حدود ميانمار، والالتزام بالقوانين والمعاهدات والأعراف الدولية لحماية الأقليات واحترام حقوق الإنسان، إذ يقطن في بورما أقليات غير الأقلية المسلمة، وتتعرض بنسبة أقل من المسلمين للاضطهاد ومصادرة حقوق المواطنة. ومن نافلة القول، إن ممارسات حكومة ميانمار تتنافى مع الآمال الكبيرة التي أشاعتها أول انتخابات ديمقراطية حرة في البلاد، بعد سنوات طويلة من هيمنة الجيش على السلطة، وكان يعوَّل على الحكومة المنتخبة أن تعمل على معالجة أسباب الشحن القومي والديني بين البوذيين والمسلمين (الروهينغا)، ومنع انفلاته إلى أعمال دموية في ماي 2012 إثر زعم بعض البوذيين بأن ثلاثة من أقلية (الروهينغا) المسلمة اعتدوا جنسياً على فتاة بوذية وقتلوها، واندلاع أعمال انتقامية واسعة في جوان بدأت بقتل 11 رجل دين مسلم، وتصاعدت بعدها الأعمال الانتقامية المتبادلة، وذهب ضحيتها الآلاف من القتلى والجرحى وتشريد مئات الآلاف من الأقلية المسلمة. وطوال أكثر من خمسين عاماً أظهرت السلطات في ميانمار عدم تسامح مع الأقليات، وخاصة الأقلية المسلمة، بحرمان أتباعها من ممارسة شعائرهم الدينية، وطمس هويتهم القومية والإسلامية، ومصادرة ممتلكاتهم، ومحاولة إجبارهم على الذوبان في مجتمع الأغلبية البوذية، وفرض قانون صارم عليهم لتحديد النسل، وطردهم من الوظائف الحكومية، وعدم تمكينهم من التعليم والاستفادة من الخدمات الاجتماعية والصحية لمرافق الدولة. إلا أن العامل الرئيس في حالة الاحتقان بين الأغلبية البوذية والأقلية المسلمة في ميانمار يكمن في البيئة الثقافية والاجتماعية المنغلقة تحت حكم العسكر منذ عام 1962 إلى العام المنصرم، حيث عانى المسلمون (الروهينغا) من تمييز الحكومة العسكرية وظلمها، التي كانت على المستوى الرسمي تُعلِي من شأن البوذية. خلافات قديمة.. وفي هذا المقام يؤكد الكاتب ألكسندر بيرزين في كتابه (رؤية بوذية للإسلام) أنه وفي الوقت الحاضر (هناك مناطق قليلة في العالم، يتعايشُ فيها معاً البوذيون التقليديون والمجموعات الإسلامية. وفي بعض هذه المناطق حيث يتمازجون - مثل التبت ولاداخ وجنوبي تايلاند - فإن هذا التفاعل يتأثر بشدة بأفعالِ مجموعاتٍ ثقافيةٍ ووطنيةٍ أخرى، لدرجة يتعذر فيها على المرء أن يفصل بطريقة مُجديةٍ القضايا الإسلامية-البوذية بعينها خارج سياقها الأوسع). ويضيف: (وفي أماكنَ أخرى، مثل ماليزيا وإندونيسيا، يتألَّف السكان البوذيون من الصينيين في الخارج، والتفاعل بينهم وبين المسلمين أبناء البلد تمليه أساساً عواملُ اقتصاديةٌ. وباختصارٍ يبدو أن الخلافاتِ العقائديةَ الدينيةَ لها دور صغير في العلاقات البوذية الإسلامية في يومنا هذا). وتفيد التجارب التاريخية أن الخلافات العقائدية في شرق أسيا وكل بقاع العالم كانت موجودة منذ الأزل، ويمكن للمجتمعات التعايش معها من خلال الحوار واحترام حرية المعتقد وحقوق المواطنة، واكتشاف وتدعيم القيم الإنسانية المشتركة بين العقائد والأعراق والشعوب. ومن دون تغيير سياسات حكومة ميانمار تجاه الأقلية المسلمة لا يمكن تسوية الصراع العرقي، ولا يمكن منع امتداده خارج حدود البلاد، وما الدعوات لإعلان الجهاد في ميانمار نصرة للأقلية المسلمة المضطهدة إلا أول تباشير إعصار حروب طائفية وعرقية في شرق وجنوب شرق آسيا، يمكن تداركها بإزالة أسباب الاحتقان الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بدل صب الزيت على نار الصراع، وهذا ما يجب أن يساهم به المجتمع الدولي، وفي المقدمة منه دول (آسيان) و(منظمة التعاون الإسلامي)، للحفاظ على التعايش بين أتباع الديانتين الإسلامية والبوذية، وتلافي خطر انفجار المجتمعات التي يتشاركون المواطنة فيها.