أفرزت ظاهرة العولمة في ظل الانفتاح الكبير الذي أتاحتْه وسائلُها للتواصل بين الثقافات والشعوب - بيئةً من الهواجس المريبة في بلدان العالم الثالث، عندما بدأت هذه البلدان تتلمس تداعيات العولمة السلبية على مجمل مَشاهِدِ الحياة الداخلية فيها بشكل مباشر، حيث لاحظت مخاطر التداخل الحضاري، وأدركت سلبيات فرض ثقافة الآخر بالإقحام، عبر تقنيات الاتصال الرقمي الحديثة، والفضاء الإعلامي المفتوح في كل الاتجاهات بلا قيود، بما يسببه هذا المنحى المتعمد من تشويهٍ لتصورات الشعوب، وتسفيه لموروثها الحضاري، من خلال أساليب تزيين الثقافة الوافدة للجيل، وتحبيب تَبَنِّيها لهم، وما يعنيه هذا التحدي من مسخ للخصوصيات الوطنية. لذلك باتت بواعث الغزو الثقافي الأجنبي ودوافعه واضحةً تمامًا لأي بلد من بلدان العالم الثالث، بما فيها الشرق الإسلامي، باعتبارها لا تعكس مجرد التفوق التقني، والعلمي، والاقتصادي للغرب، وحسْبُ، وإنما تستبطن مسخ الهُويات الوطنية، والمس بالقيم الدينية، والتقاليد التراثية، لاسيما وأن الغزو الثقافي يتميز - كما هو معروف - بالشمولية، وبالتالي فهو لا يقف عند حد، ولا يكتفي بمجال بعينه. وتَكْمُن خطورة الغزو الثقافي في كونه يستهدف مسخ الثقافات المحلية، بما هي الصورة المعنوية للأمة بكل خصائصها الفكرية، وتصوراتها العَقَدِية، وسلوكياتها الاجتماعية، وموروثها الحضاري، وفرضكل ما هو دخيل عليها بالاختراق، وتحسين التكيف معه لهم، بقصد إعدادهم لتَقَبُّله كبديل عصري، تتطلبه ضرورات الحداثة. ولا شك أن التخلف الحضاري، والتدهور الثقافي، اللذين تعاني منهما البلدان العربية والإسلامية - شجعا ظاهرة الانبهار المتهافت بما أبدعتْه المدنيةُ الغربية من مبتكرات علمية، وما حققته من منجزات تقنية هائلة، وما ترتب عليها من رفاهية اقتصادية، وتحسن في المستوى الصحي والمعاشي، الأمر الذي سهَّلَ للغزو الثقافي لمجتمعاتنا مهمةَ التشكيك في قدراتها الذاتية الكامنة على النهوض، وبناء حضارتها العصرية، وشجع النخب المحلية فيها على الجري وراء الغرب، وتقليده بشكل أعمى، باستعارة نظم الحياة عندهم، واستنساخ نمط سلوكياتهم، حتى ولو لم تكن متوافقة مع خصوصيات تلك البلدان. وإذا كان الاستشراق من بين أخطر أشكال الغزو الثقافي الذي تعرضت له الأمة العربية والإسلامية بالذات، بما شكله من تحدٍّ واضح للمعرفة الإسلامية، بهدف قتل روح الأمة من خلال الإساءة إلى الإسلام، والتشكيك بقدسية نصوصه، ووصمه بالتخلف، فلا شك أن وسائل الغزو الثقافي في التربية والتعليم، من خلال إنشاء المدارس والجامعات الأجنبية في الوطن العربي والإسلامي، التي تعتمد التدريس باللغات الأجنبية، وإقصاء اللغة العربية من الاستخدام بقصد صياغة الأجيال كما يريدون، لم تكن أقل منه خطرًا في التأثير إن لم تَفُقْهُ. على أن الغزو الثقافي من خلال الفضاء الإعلامي المفتوح في كل الاتجاهات، هو من أشد أساليب الاختراق خطرًا من خلال ما يتيحه من إمكانيات تقنية في بث القيم والسلوكيات الغربية، في برامج مُعَدَّة بعناية فائقة، لكي تحظى بتأثير قوي في الرأي العام في تلك البلدان لسهولة وصولها إلى كل بيت، وما يعنيه هذا النهج الخطير منعبث بقيم الجيل. وفي ضوء ما تقدم، فإن الأمر يتطلب الانتباه الدائم إلى مخاطر العولمة، وفضح أساليب التغريبب الغزو الثقافي، والعمل على حماية الأمة من مخاطره، من خلال ترسيخ ثوابت الخصوصيات المحلية، ومحاربة محاولات طمس معالمها بالمسخ، حفاظًا على الهُوِية، وتلافيًا للتفريط في مقومات الوجود، بحيث يأتي هذا النهج في مقدمة الأولويات الوطنية، بمغادرة نهج التبعية من دون تردد، واعتماد نموذج الطريق المستقل للتنمية، بالشكل الذي يُقَلص من الفجوة القائمة بين الغرب والبلدان النامية على نحو ملموس، ويشجع المعنيين بالأمر في البلدان النامية على تجاوز هواجس التَّهَيُّب من الانخراط في ثورة الاتصال والمعلوماتية، خوفًا من تداعياتها المحتملة على الهُوية الوطنية. عن موقع ألوكة