شاء القدر لشيخ قُرّاء فلسطين محمد سعيد ملحس أن يُثبت صواب رأيه في حكم تجويدي لكلمة في القرآن الكريم، كان معلمه في الكُتاب قد خالفه فيه، فحالفه الحظ بأن عثر على قصاصة من كتاب قديم لأحكام التجويد بينما كان في طريقه للمسجد، وقد كتب عليها ذلك الحكم الذي يؤكد صحة رأي الفتى، مما شكل نقطة تحول في حياته، فانطلق يدرس علوم القرآن ويتعمق فيها. ما سبق يختزل تفاصيل كثيرة رافقت الشيخ ملحس (90 عاما) في صغره عندما انخرط في تعلم القرآن الكريم والإبداع بترتيله في مساجد مدينته نابلس، لكن خلافا في الرأي على حكم تجويدي جعله يغادر إلى مسجد آخر، رغم أن رأيه انبثق عن قاعدة علمها إياه شيخه آنذاك. ولعدم اقتناع هذا المعلم، أرسل الفتى ملحس برسالة منمقة إلى شيخ قرّاء مصر في حينها محمود الحصري، طالبا رأيه في هذا الحكم وفي مسائل أخرى، فرد الحصري بصحة رأي الفتى. شكلت هذه الحادثة نقطة تحول في حياة الشيخ ملحس، وانطلق يتدارس علوم القرآن ويتشربه بطرق مختلفة، وصار رغم صغر سنه قادرا على عقد مجالس العلم لمن يفوقه سنا بمساجد مدينة نابلس. ويروي الشيخ ملحس أن شغفه بتعلم القرآن وأحكام التجويد جعله يضع لنفسه خطى يسير عليها في هذا العلم، فاهتدى لجمع أفكاره وطباعتها ووضعها في كراس مرتب عنونه (رسالة في أحكام تجويد القرآن على رواية حفص بن سليمان) وأرسلها لشيخ قراء مصر محمود الحصري. وما لبث أن جاء رد الشيخ الحصري سريعا بمدح الكتاب، لعرضه طريقة سهلة وميسرة في تعليم أحكام تجويد القرآن الكريم، وكان ذلك عام 1950، بحسب ما يقول الشيخ ملحس. ويضيف أن ذلك أسعده كثيرا وشجعه على طباعته، فكان لهذا وقعه، حيث تهافت على كتابه الدارسون والمتعطشون لشرح مبسط وواضح، (وطار صيت الكتاب في الآفاق). ولم يكن الكتاب مقصد الشيخ ملحس وحده، بل أوصله المهتمون من تلامذته في حلقات العلم بالمساجد للفلسطيني رفيق النتشة الذي كان يشغل مدير مكتب وزير المعارف في قطر، فأقر تدريس الكتاب بالمدارس هناك ثم طباعته. وكانت الطبعة الأولى للكتاب في مصر عام 1953، ثم الثانية في مطابع قطر الوطنية عام 1958، والثالثة في السودان عام 1969. وتوالت بعد ذلك طبعات الكتاب التي وصلت 18 طبعة، واكبتها عمليات تنقيح وتبسيط لكل ما يصعب شرحه. وليست مساجد نابلس وحدها التي احتوت الشيخ ملحس بصفته إماما ومعلما، بل عقد مجالس علم في مناطق داخل فلسطينالمحتلة عام 1948، وعمل مدرسا بكليات دينية ومدارس بالضفة (رغم أن تعليمه أساسي فقط). ويقول رئيس لجنة تحفيظ القرآن بنابلس الشيخ مصطفى الكوني إن وزارة الأوقاف اعتمدت الشيخ ملحس لتقديم دورات بشهادات مصدقة في المساجد كان يحضرها الصغير والكبير قادت لانتشار دور تحفيظ القرآن الكريم. ويضيف إن الشيخ يُعد (رائد علم التجويد ومحيه بفلسطين بالطريقة المنهجية والأكاديمية)، وتميز بأن أدخله لحيز الوجود مقروءا ومسموعا بعد أن كان شفويا. وتعد الطريقة المبسطة في طرح الأحكام وتوضيح ذلك بالصور والتنقيحات المستمرة مما ميّز كتاب الشيخ ملحس، إضافة لتكلمه بلغة العصر وتبويبه بطريقة ميسرة بوضع الآية والحكم والمثال، وختم الكتاب بجمع الكلمات كافة التي يمكن أن تُشكل لبسا لدى المتعلمين. وزاد حب الشيخ للقرآن بأن أسس (إذاعة القرآن الكريم بنابلس) وهي الوحيدة في فلسطين، بحسب المشرف بالإذاعة الشيخ محمد نور علي الذي يضيف أن الشيخ ملحس كرّس حياته للتجويد، حتى أنه كان يسمع قراءات شيوخ القرآن المحليين والعالميين قبيل إذاعتها في الإذاعة، (ومن يجد في تلاوته أخطاء يرفض إذاعتها). ورغم كبر سنه وسوء وضعه الصحي لا يزال الشيخ يحافظ على (ترتيل) القرآن الكريم بكل معانيه وأحكامه.