كنت في طيبة الطيّبة، أتنسّم عبيرها، وأترشف نميرها، وأصافح تاريخها العريق، وأفرح بأهلها الطيبين. بطيبة رسم للرسول ومعهد يلوح وقد تعفو الرسوم وتهْمدُ مشهد طريف شدّني وأعادني إلى الماضي البعيد الذي تختزن ذرات الثرى في هذه المدينة الطيبة ذكرياته الجميلة. كنت في دورة لتفسير (جزء الذاريات) في جامع الشيخ محمد بن يحيى الجهيمي، وقد لحظت تعطّش الناس للدروس والدورات والمناشط العلمية، وَتَلفَّتُ من حولي فوجدت شباباً متطلعاً للعلم والجد والأخلاق، عازفاً عن القيل والقال وإضاعة الأعمال، يعكفون لأكثر من ثلاث ساعات يومياً على مدارسة كتاب الله ومعرفة أسراره. ورأيت حضور الفتيات الطيبات لا يقل حماساً ومتابعة، والأسئلة منهن تتصل فيضيق الوقت عن إجابتها فأجد المتابعة والمعاتبة فهي وسيلة الاتصال والاستزادة لهؤلاء المتفقهات. ورأيت شيوخاً وَخَطهم المشيب وحضروا بصحبة أبنائهم وأحفادهم يسمعون الذكر ويستطيبون المجلس. الْتَفَتُّ ذات أمسية فإذا بي أرى أمامي شيخاً على كرسيه وقوراً، فتمعّنت فإذا به الشيخ المعمّر سليمان الجربوع عمدة أهل القصيمبالمدينةالمنورة، وهو مدرسة في الحياة، عمره يزيد على أربع وتسعين سنة، وهو من بقية (العقيلات) الذين ذهبوا إلى الشام للتجارة، مثلٌ في التسامح وطيب النفس والصبر على الناس، وإلى اللحظة فهو يداوم في عمله من التاسعة إلى الثانية عشرة يومياً، ولا تفوته صلاة في الحرم، فكان عجيباً أن أراه يُغيّر نظامه ويحضر هذه الدورة، وينصت كأحد الطلاب. استضافني آخر يوم في منزله العامر، ودخلت عليه ضاحكاً وأنا أقول: -ما أتيتك كالعادة مُسَلِّماً أو زائراً لرجل في مقام الوالد، بل أتيت أتعاهد واحداً من (طلابي)! رأيت بين يديّ على مدى أسبوع عدداً من الصغار يقارب الخمسين، ما بين سن التاسعة إلى الخامسة عشرة، يستديرون حلقة بقربي في الدرس، ومعهم الأوراق والأقلام فلا أقول شيئاً إلا كتبوه باهتمام، وإذا سألت أجابوا، وإذا توقفت أكملوا، وإذا حانت فرصة قاموا فسلّموا .. وجرت عادتي أنني إذا صافحت مثلهم قصدت إلى كف أحدهم فلثمته بصدق وقلت: -كيف حالك سيدي ؟! فصاروا يحاكونني فيها. وأجدهم خارج المسجد إذا أقبلت، وألقاهم عند باب السيارة إذا انتهيت، وفي آخر يوم ركضوا مع السيارة عن يمينها وشمالها بحب وبراءة لا تفسير لها إلا أنني أحبهم فعلاً، وأحب الأسر التي نمّت فيهم روح الخير والإيمان والأخلاق وحسن الظن .. أهديتهم كتبي، وسجلت أسماءهم عليها، وشعرت بسعادة تغمرني يوم عرفتهم، فعرفت طباع أهل المدينة الطيبة .. المدينة التي شرفت بمقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وسعدت بالذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبل غيرهم، ممن يحبون من هاجر إليهم أو زارهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا .. مدينة الإيمان والقرآن... كنت مسروراً بصفاء النفوس، وطلاقة الوجوه، ونبل الأخلاق، والذي شاهدته لدى المسؤول والرجل العادي، وموظف الفندق، ورأيت نماذج عديدة لفعل إيجابي لفرد أو مؤسسة، لو ذهبت أُسجّلها لوجدتني أدوّن أسماء كل من لقيت دون استثناء، فما لقيت إلا رجالاً يمنحون الحب والكرم والطيبة، ويستحقون مثل ذلك وأكثر. إن من عادة الناس أن تتوفر طاقاتهم على نقل الخلافات، وتتجمهر غالبيتهم حول حادث سيارة عابرٍ في الطريقس، وربما غفلوا عن حياة واسعة، ومناشط غنية، وجهود مثمرة، بسبب أنها هي الأصل الراسخ، والشيء الطبيعي، وبذلك يجورون في حكمهم على الأشياء حين يختصرونها في الاستثناءات والجزئيات، أو يتعاملون بلغة الإعلام الذي لم يُصنع ليتحدث عن الأوضاع العادية الطبيعية، وإنما ليلقي الضوء على المستجدات والأحوال الطارئة والغريبة. فالمدينة اليوم برجالها الكبار وجامعتها العريقة التي تستقبل الآلاف من أنحاء العالم وتستحق أن تكون مشروعاً حضارياً ضخماً، وبشبابها المخلص المتفاني في العلم والعمل التطوعي والخيري، وبناتها الصالحات المتطلعات للعمل والإنجاز .. خليقةٌ بأن تكون معلماً يبشر بمستقبل هذه البلاد المباركة. أتيت المسجد النبوي فتعجبت، المكان مكتظ بالمصلين في كل وقت، وإذا شئت فشاهد قناة السنة النبوية التي تبث من المسجد على مدار الساعة فلا تجده إلا حافلاً بزواره وعماره من كل جنس ولون وسن.. الهدوء يغمر المكان على كثرة الناس، فلا صخب ولا لغط ولا ضجيج. والنظافة والترتيب هو سيد الموقف حتى في الساحات الهائلة المحيطة بالحرم .. المداخل، المواقف، المغاسل، المساكن .. المنطقة حول المسجد تعدّ نموذجية، وهذا يؤكد أن الناس قابلون للتنظيم متى ما كانت الأماكن والتجهيزات من حولهم مساعدة، مهما كثروا وتنوعت مشاربهم.. صلّ اللهم وسلّم وبارك على صاحب هذا القبر الشريف ، ورضي الله عن صاحبيه وأزواجه وذريته وآل بيته.. ماذا لو بُعث -عليه السلام- فرأى بعينه هذه الحشود التي تعد بالملايين تقصد مسجده، وتؤم البيت الحرام، وتفديه بالنفس والأهل والمال؟ وهي ليست سوى قطرة في بحر أتباعه الذي يزيدون على خُمس سكان المعمورة ! بديع الزمان وبدر الظلام أمير الأنام وماء الغمام دعاء الخليل وبرء العليل وهادي السبيل لدار السلام أحبك ربي فصلى عليك عليك الصلاة وأزكى السلام نبي الهدى يا رسول السلام ويا مرسلاً رحمة للأنام عليك الصلاة عليك السلام وصحبك والتابعين الكرام ومثلك لا تلد الأمهات ولو عاش كل فتى ألف عام جهادك في الأرض أسمى جهاد نصرت به الحق يوم السداد وأعليت صرح الهدى والرشاد فأنت الأمين وأنت الإمام * عن موقع الإسلام اليوم -بتصرف-