ينطوي التاريخ الإنساني على عجائب وغرائب لا نفهم من أمرها شيئا، ونحن إن حاولنا تفسيرها أو تأويلها اصطدمنا بعجائب أخرى، ووقفت بنا أفهامنا عاجزة عن نيل المراد. سألت نفسي وأنا أقرأ نتفا من تاريخ العثمانيين والروس خلال القرون الأخيرة: هل الأمية عائق عن بلوغ الأرب في هذه الدنيا؟ وإذا كانت كذلك، فكيف نفسر نجاح بعض القادة في تسيير شؤون دولهم وممالكهم بالرغم من أنهم كانوا لا يقرؤون ولا يكتبون، بل يعتمدون على المنطق اليومي البسيط؟ واستذكرت في هذا الشأن ما قاله قايد أحمد، رحمه الله، الذي كان وزيرا للمالية في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين قبل أن يدب الشقاق بينهما. كان متعلما، غير أنه كان يفضل أن ينعت نفسه بالفلاح البسيط؟ أجل، لقد قال ما معناه، إنني اضطلعت بوزارة المالية وأنا فلاح بسيط، واعتمدت على منطق الفلاح البسيط واستطعت أن أوفر للخزينة الجزائرية في آخر العام كذا وكذا من المبالغ بالعملة الصعبة! في تاريخ العثمانيين رجل قاد إمبراطورية واسعة الأطراف، وصال وجال في أوربا الشرقية، وأخضع عددا من الممالك، وبهى عددا من المساجد العظيمة، ومع ذلك، فما كان يقرأ ولا يكتب بحسب ما تقوله الروايات التاريخية. وفي تاريخ الروس، رجل لا يقل عظمة عنه، هو بطرس الأكبر، الذي ما كان يقرأ ولا يكتب هو الآخر، لكنه استطاع أن يدفع ببلده إلى صعيد الحضارة، وأن يلحق بركب أوربا في مجال العسكرية والصناعة والثقافة والدبلوماسية. وعلى الرغم من أنه كان غريب الأطوار، فإنه بلغ الأرب. وبالفعل، فهو الذي أمر أفراد حاشيته بحلق لحاهم وبالإقتداء بالنهج الأوربي. وأكبر نموذج وأعظمه في هذا الشأن هو الرسول محمد )ص( الذي ما كان يقرأ ولا يكتب وفقا لما ورد في القرآن الكريم. والبشرية كلها تعرف مآثر هذا النبي الكريم وكيف نقل الإنسانية من طور الهمجية إلى طور الحضارة. أنا لا أطالب، بطبيعة الحال، بأن تعود البشرية إلى مرحلة الأمية التي عرفتها طوال حقب من التاريخ، ولكن السؤال ما زال يمضني: هل الأمية عائق دون بلوغ الأرب في هذه الدنيا؟ يل، ما هي الأمية على وجه التحديد؟ أهي تلك التي نتحدث عنها في كل يوم، ونشير بأصابعنا إلى بلدنا وإلى نسبة الأميين في هذا العالم الذي كان يسمى ثالثا في وقت من الأوقات؟ أم هي تلك التي تتحدث عنها هيئة الأممالمتحدة ومنظماتها الإقليمية؟ لسوف تظل هذه الأسئلة عالقة بذهني كلما نظرت في التاريخ البشري، وكلما استعدت سيرة بطرس الأكبر وسليمان القانوني، وكلما قرأت جوانب من السيرة المطهرة، سيرة النبي )ص(. من يدري، فلعل هناك باحثين عبر العالم يركزون اهتمامهم على هذا الجانب الغريب المعجب.