ذات يوم من عام (1988) تطوعت رنا قباني الصبية العربية المقيمة في لندن نيابة عنا وإثر زوبعة سلمان رشدي إياها بتوجيه رسالة إلى الغرب الذي وصف حضارتنا بالفَضة والناشزة والهمجية.. رسالة غاية في الدقة والوضوح تذكره فيها بجملة من الصور (القديمة والجديدة) عن واقع العلاقة المتراكمة بين أهلها وبين ذلك الغرب الذي يبدو أنه ما يزال يصر على صدامية فكرية وثقافية دون مبرر في عصر يقال له عصر حوار الثقافات والحضارات والأديان.. وخلافه. والرسالة التي تحولت فيما بعد إلى كتاب صغير الحجم ولكنه كبير ومؤثر بالفعل الذي أحدثه في كل البلاد التي تُرجم إلى لغاتها نظرا لدقة وعفوية، الصورة التي وضعت الكاتبة هؤلاء الناس في مواجهتها خلافا عن تلك التي تشبثت بخيالهم منذ قرون مضت، والكتاب كان أصلا باللغة الانجليزية، التي تتقنها أكثر من العربية، ترجمه لنا فيما بعد والدها الديبلوماسي والإعلامي الكبير الراحل صباح قباني الشقيق الأكبر للشاعر المرحوم نزار قباني. رحلت هذه الباحثة الشجاعة في البداية في جملة الخلفيات والآراء المسبقة المتوارثة أبا عن جد عند الانسان الغربي بمن فيه نخبته، عن الإسلام الذي كان مفاجئا ومنافسا يوم انطلق من الجزيرة العربية بالوسائل (غير المشروعة) كما يقولون للاستحواذ على عقل ووجدان كل من يصادفه من خلال معادلة (الدعوة) أو معادلة الترهيب، كما أطلقو عليها، ونظرا لارتباكهم أمام جملة من الأحكام الناظمة للمجتمع والحياة بصورة عملية أيامها اعتبروا هذا الدين كما تقول (أقل روحانية) و (أكثر دنيوية) وبالتالي فهو أقل مرتبة من المسيحية السائدة وقتها.. ومن خلال هذه النظرة التي ترسخت، فإن الإرث الغربي الذي تركته العصور الطويلة لدى هؤلاء الناس ظل يشوبه التشويه وتكرار ذات الأساطير حول هذا الدين وحول رسوله دون أن يجد يوما من يتفضل بتجليس هذه المعادلة التي عملت الكنيسة وحدها على ترسيخها في الفكر الغربي، ومن ثم تطورت لتشمل فيما بعد من أسميناهم بالمستشرقين الذين ظهروا في القرون الثلاثة الأخيرة، هؤلاء الذين انكبوا على دراسة المجتمعات الإسلامية، وقد وقع معظمهم مع الأسف تحت وطأة ذلك الموروث. تقول رنا:» مما لاشك فيه أن هذا التاريخ الطويل من التشويه والاستهزاء اللذين غذاهما آباء الكنيسة والفرسان الصليبيون ورجال اللاهوت والرحالون والروائيون المعاصرون وغيرهم يشكل بحد ذاته عقبة هائلة أمام أي تفهم قائم على التسامح« ودون انحياز لعاطفتها راحت تحشد جملة من الأوجاع التي كانت تعاني من تداعياتها وهي صغيرة هناك، ومن ثم وهي طالبة في أعرق جامعات لندن لترسل إلى ذلك الغرب كما أسلفنا بالرسالة التي تهزه بقوة... رسالة تسرد له فيها بالإضافة إلى تذكيره بماضيه (اللا أخلاقي) إرثا استثنائيا من جمال الحياة وصفائها تحت لواء هذه العقيدة بوسطيتها ومدنيتها وتسامحها وفطرتها وتضرب له الأمثلة من خلال السيرة الذاتية لعائلتها ومجتمعها الدمشقيين، وبالأخص أن عائلتها التي أنجبت الفنانين والأدباء والمفكرين الذين نافسوا بإبداعهم وحساسيتهم (الشرقية) الكثير من الأسماء الغربية التي أبهرتنا بحق أو بدون حق ولم يكن ذلك الدين يوما عائقا أمام عطاءاتهم، عائلة كانت تنام وتصحو على الورد الدمشقي في شارع جميل يحمل الكثير من معاني الحرية والنضال، إنه شارع (أبي ذر الغفاري)، الصحابي الذي رسم للعالم أجمع ومبكرا خرائط العدل والتمرد على الظلم. وبعد أن تسرد رنا قباني السيرة الزاهية للحياة الدمشقية ومثيلاتها في كنف ذلك الدين وما تتميز به لتثبت أنه ليس مجرد نظرية دينية تحث على الإيمان بالله وبرسالة نبيه فقط، بل هو أسلوب حياة كامل انسحب أثره على الطريقة التي رأت فيها أبويها والجيران والمجتمع كيف حدد لهم ماذا يأكلون ويشربون وكيف يغتسلون ويلبسون ويتحدثون وكيف ينظرون إلى العالم، ولا سيما عالم الغرب غير المسلم. تعود لتذكر ذلك الغرب وبحزن شديد بتصرفاته اللاأخلاقية التي لم تتوقف حتى وهو في عز إخفاقاته بعد مراحل الاحتلال الظالمة لأوطاننا.. وها هو قبل حوالي أربعين سنة يبتدع مصطلح الإرهاب وإلصاقه بنا في عملية استفزاز ونكران لكل التسامح الذي عم الدنيا على مدى قرون في الأندلس مثلا يوم تسيّد أجدادها وعملوا على حماية كل مكونات ذلك المكان الذي لا يزال لغاية اليوم يتغنى بتلك الأيام، مستغربة كيف أن هذا الإرث الإنساني العظيم يجد بين فترة وأخرى من يتنكر له ويثير حوله الشكوك والأزمات وإعادة تكرار الأكاذيب رغم علمه بأنها أكاذيب. ماتزال رنا قباني تعمل دون كلل وبشكل راق ومتحضر على تصحيح الصور الخاطئة عن العالمين العربي والإسلامي للحد قدر الإمكان من تلك الكراهية التي صاغها كما يبدو إرث أدبي وثقافي عاد وازدهر أكثر في السنوات الأخيرة، من خلال الأفلام والكاريكاتور وجملة من الكتابات ترعاها امبرالية جديدة متحالفة مع صهيونية دخلت بدورها على الخط لتكمل حلقات التحريض المتقدمة والمبتكرة... أي أن الثقافة السائدة اليوم قد ارتبطت بحقوق القوة التي رسمت الشرق ذات يوم وأظهرته على أنه وحده المكان الراسخ للعنف والجنس والكسل والتعصب، الأمر الذي أدى إلى تثبيت المقولة التي راجت طويلا وأعيد إحياؤها وهي أن هذا الشرق ليس أهلا لحكم نفسه. إن جملة الاستنتاجات التي توصلت إليها رنا قباني (القريبة جدا من الغرب) لم تأت من فراغ لأنه بعد جملة التداعيات تلك وتراكمها كرست هذه الباحثة سنوات طويلة في غرف الكتب والمطبوعات النادرة بمكتبة جامعة كامبردج تتملى من روافدها الفكتورية لتخرج لنا عام (1993) برسالة دكتوراه غاية في الأهمية عنوانها: »أساطير الغرب عن الشرق... لفق تسد« وهي واحدة من أهم الأطروحات التي ظهرت إلى العالم في هذا الموضوع، وتقول رنا بأن إدوار سعيد هو الذي حملها على القيام بتحقيقاتها تلك والرجل كما نعلم كان موضع نفور من المحافظين في تلك الجامعة العريقة على اعتبار أن شيئا من السياسة كان يظهر في أدبه، وهو أمر يعتبرونه من المحرمات، ونظرا لكونه فلسطينيا فإن النقمة عليه وعليها كانت أكبر. بقي أن نقول: إن الغرب الذي ما يزال يسعى دائما إلى أن يراه بقية العالم على قمة جبل الأخلاق والديمقراطية وحقوق الإنسان، هو ذاته من يخرج دائما في تناقض واضح بين هذا التظاهر الأخلاقي وبين الأفعال التي لا تستجيب لأقل المعايير الأخلاقية، ويظل دائما يزايد... وتظل القوة بالنسبة إليه هي الحكم الوحيد في هذا العالم. ثم... ومن قال بأن هذا الغرب لا يستحضر المشاعر والعادات الدينية في مناسباته؟... أليس مكتوبا بالخط الواضح على العملة الأمريكية مثلا (IN GOD WE TRUST)؟ ألم يتوافق الأمريكيون على أن بلادهم هي أمة واحدة بأمر الرب؟... وهي عبارة موجودة بوضوح في قسم الولاء الأمريكي. وللعلم دائما، فالدين عادة ما يلعب الدور الرئيسي في السياسة والهوية والثقافة الأمريكية، وفي غيرها، لأنه يشكل برأيهم شخصية الأمة ويساعدها على تشكيل أفكار العالم الغربي عن بقية دول العالم، وبغض النظر عن تلك الدلالات الدينية حتى ولو صدرت عن فرد أو حتى مجموعة قليلة، فإنها بالنهاية كانت عود الثقاب الذي يدس في الغابة كما يقال دون أدنى مسؤولية، وإن بعض الغرب حين يشرعن هذه الاستفزازات فهو يشرعن ردات الفعل ضدها أو ضده، والمحير أن تلك الشرعنة يباركها أكاديميون وأدباء وإعلاميون وغيرهم على اعتبار أنها إدانة فضة يوجهها ذلك الغرب إلى حضارة يصفها دائما بالناشزة والهمجية، كما أسلفنا الأمر الذي يدفع بعض الشرق إلى التفكير، كما فكر ذلك الأفغاني الذي صرح مؤخرا بأنه سيجمع ثلاثمائة ألف دولار من تجار بلاده لتكون مكافأة لمن يقتل منتج الفيلم المسيئ للرسول، ويبدو أنه غاب عن ذهن هذا الرجل أن الشعب الأفغاني هو الأحوج إلى هذه الأموال كي يعيش بكرامة، ومن ثم يدافع بطريقة أفضل. وأما رسائل رنا قباني إلى الشرق فهي برأينا تتلخص في إعادة قراءة الذات الضعيفة وأن عليها عند بناء المواقع والمواقف أن تدرك الواقع الذي تعيشه من خلال عناصر القوة وليس من خلال المواعظ التي لاتزال تسعى إلى التشبث بها، وأن تتمعن جيدا في ذلك الماضي الذي يشرفها دون الشعور بأية عقدة يحاول ذلك الغرب إثباتها عليها، لأنها ببساطة لا تخاف من ذاكرتها، بل الغرب هو الذي يتملكه الشعور دائما من ماضيه. وننهي بهذه السطور التي حاولت فيها أن تصور نشأتها وذكرياتها الشخصية التي عاشتها، وما تركته في نفسها، الأمر الذي ساعدها على مواجهة ذلك الغرب بهدوء وثقة قل نظيرهما... تقول: »وقد توحي النظرة الأولى أنني تلك المرأة المسلمة التي ألف الناس صورتها، غير أن أحاسيس وردود فعلي وعاداتي اليومية ونوازع أعماقي إنما هي موسومة جميعا بأثر لا يمحى من تلك التربية التي أنشئت عليها، وبدلا من أن أتنكر لهذه التربية وهو ما كان محملا بحكم تعرضي المبكر للغرب، فلقد وجدت من الأسباب ما يجعلني مدينة لها بكل ما ظلت تشد أزري.