منذ أن أطلق كاتب ياسين رحمه الله مقولته الشهيرة (اللغة الفرنسية غنيمة حرب) لسبب ما وقتها لم يتوقف الجزائريون وربما غيرهم من أبناء المغرب العربي عن إضفاء الكثير من التأويلات و(البهارات) إلى هذه المقولة ممما أفقدها ما كان الرجل يرمي إليه يوم أطلقها والذي لا يتعدى حسب رأينا لفت انتباه فرنسا إياها وغيرها بأن لغتها التي يتقنها بعض الجزائريين ستكون إلى جانب بقية أسلحة الثورة الأخرى في مواجهتها ومواجهة إدارتها وعسكرها ونخبتها من أجل تحقيق الاستقلال المنشود مواجهة فكرية وثقافية واضحة. ليأتي بعده المرحوم مالك حداد ويكمل الحكاية بإنهاء أي تأويل أو تفسير (للعبارة) بفعله (العملي) المباشر عندما يقرر التوقف عن الكتابة بتلك اللغة بعد الاستقلال ويرمي بمقولته الأشهر (لقد حان الوقت اليوم لتكريس الثقافة الوطنية بأداتها الصحيحة.. اللغة العربية). ما دفعني في الحقيقة إلى كتابة هذه الأسطر هو عنوان لافت لعمود يحرره الصديق (واسيني لعرج) في إحدى المجلات الخليجية تحت عنوان (اللغة غنيمة عشق)، فبشكل ما يحاول واسيني أن يجير الأمر إلى اللغة العربية التي يقول بأنه قد حرم منها صغيرا ولم يكن تواصله معها سوى عن طريق جدته (الموريكيه) أو في الكتاتيب القرآنية، ويروي في ذلك قصة طريفة مفادها أنه من بين نسخ القرآن الكريم التي كانت موجودة في الكتاب أو المسجد عثر بالصدفة على نسخة من كتاب (ألف ليلة وليلة) الشهير الأمر الذي يجعله يتقن العربية بشكل أكثر (علمية) إذا صح التعبير مع العلم أن الدكتور واسيني قد ذكر في مناسبات أخرى عديدة هنا في الخليج بأن تعليمه الأولي كان في الأصل باللغة الفرنسية وأن إبداعه منذ البداية كان كذلك بها أما العربية فقد جاءته فيما بعد من خلال اجتهاد خاص نظرا لعشقه الاستثنائي لهذه اللغة كما يقول دائما. قال ذلك في مناسبتين كنت شخصيا متواجدا فيهما، الأولى عندما كان ضيفا على دائرة الإعلام والثقافة بالشارقة قادما من باريس قبل حوالي إثني عشر سنة ليحاضر في متحف الفنون عن اللغة الفرنسية في المغرب العربي هل هي نعمة أم نقمة وقد كلفتني الدائرة أيامها بتقديمه وإدارة الجلسة، أما المرة الثانية فقد كانت في معرض الشارقة العام الماضي (2011) للكتاب عندما تحدث عن الرواية التاريخية وذكر من بين ما ذكر بأنه شخصيا مبدع بالفرنسية ثم تحول إلى العربية لأن تعليمه كان في الأصل بتلك اللغة.. وخلافا لذلك، فقد قرأت له حوارا مؤخرا في جريدة الخليج الإماراتية يرد فيه عندما سئل : »رغم إقامتك المديدة في باريس لماذا لم تكتب إبداعك بالفرنسية«.... قائلا : أعتقد أن اللغة هي الحصن الأول للهوية وأن الهوية العربية غناها في لغتها.. ويضيف : لكنني منذ البداية وضعت نفسي أمام سؤال جوهري وهو ماذا سأضيف لو أنني كتبت بالفرنسية على ما قدمه جيل الأدباء الذين كتبوا باللغة الفرنسية مثل رشيد بوجدرة وكاتب ياسين والطاهر بن جلون ومحمد ديب وغيرهم.. أما أنا - يضيف - فعاشق للغة العربية، ورغم ذلك كتبت بعض الأعمال القصصية القليلة بالفرنسية ومن بينها رواية (حارسة الظلال) الشهيرة.. ومهما يكن وكيفما كان استخدام واسيني للغة عربية كانت أو غيرها يظل بالنسبة إلينا مبدعا مهما تسعدنا أعماله التي نعتز بها، ونعتقد بأنها اكتسبت هذه الجمالية وذلك الصيت فقط لأنها كتبت بعربية شفافة وأصلية لم تأته بسهولة كما يبدو... نذكر فقط بأن الدولة الجزائرية الفتية انطلقت جديا وبحماس كبير مباشرة بعيد الاستقلال في التدريس باللغة العربية (الوطنية والرسمية) للوطن وأعتقد أن واسيني (ابن الثقافة) أيامها قد بدأ حلمه يتحقق بالاقتراب أكثر من لغته التي حرم منها ذات يوم. ولقد أحزنني كثيرا أن بعض أطفال الجزائر حرموا من العربية في عز أيام الثورة كذلك، كما أسعدني أن بعضهم الآخر وجد فرصته في تعلمها في مدارس جمعية العلماء التي سدت هذه الثغرة بشكل لافت أيامها إلى أن أغلقتها السلطات الاستعمارية بعد انضمام الجمعية صراحة إلى جبهة التحرير عام (1956).. أقول هذا لأني شخصيا كنت من تلاميذ هذه المدرسة الذين شهدوا المرحلة وعايشوها يوما بيوم وما كان تواصلي مع الكتاب أو مع المدارس الحرة إلا بعد ذلك مباشرة. هذا التنويه الموجز كان لا بد منه قبل الحديث في الغنيمة التي راح بعضهم كما أسلفنا يحملها ويتفنن في تأويلها منذ أن أطلقت... باختصار شديد، أن يكون أي شيء مادي أو معنوي غنيمة فهذا أمر وارد ومنطقي لأن التناطح والمحاربة تجران دائما إلى انتصار يلحقه غنيمة بشكل ما، وقد استوعب أن تكون اللغة الفرنسية مثلا والتي هي ملك أصحابها غنيمة حرب فرضتها ظروف تلك الحرب أو فرضها الاحتلال الطويل كما ألمح لذلك واسيني.... أما أن تكون هذه اللغة غنيمة عشق (وأي عشق كان بيننا وبين عدونا)؟..........فهذا العمري إن ما نعرفه هو أن العشق لا يكون إلا للغة الوطنية (الموروثة) وحدها لأننا إذا لم نعشقها فإننا نكره أنفسنا، فالعشق لن يكون له أية قيمة إذا لم يكن انصهارا وتماهيا في المعشوق على طريقة الطرفة الصوفية التي ذكرها شمس الدين التبريزي والتي مفادها أن أحدهم طرق الباب فقالت : من ؟ قال : أنا... فلم تفتح وعاد فطرق فقالت : من؟ قال : أنت.... ففتحت أما أن يكون حقي وثروتي وحلالي الذي ورثته عن أجدادي أو تعبت في اكتسابه (غنيمة) عندما استرده من الآخر الذي حرمني منه لسنوات قليلة أو لعشرات السنين (كما هو حالنا مع العربية) فذلك أمر مازلت شخصيا أبحث عن معادلة تساعدني على استيعابه فعن أي عشق وعن أية لغة نتحدث؟ كاتب ياسين ومالك حداد: كثيرا ما يخطر على البال التساؤل الآتي: لماذا لم تتوقف النخبة الثقافية الجزائرية وكذلك بعض الإعلام الثقافي ومنذ أن أطلق كاتب ياسين مقولته (الجوهرة) تلك ولغاية اليوم عن الإشادة بها.. أو التوجس منها أحيانا، ما يمكن أن تؤدي إليه في حالة تبنيها والعمل على تطويرها كمسلمة فرنكوفونية ذات عمق إيديولوجي أكثر منه ثقافي... ولم نسمع يوما عن أحدهم وقد ذهب إلى ما هو أعمق وأكثر علمية ودقة.... إلى ما تفضل وتركه لنا المرحوم مالك حداد كشاعر وروائي، بل كمفكر استثنائي درس وحلل بعمق العملية الثقافية الاستعمارية وملاحقها اللامتناهية، فقد ترك لنا الرجل ثروة خاصة من الدروس والمقولات والحكم المؤكدة علميا وفي الموضوع اللغوي تحديدا، هل لأن صاحب (الشقاء في خطر) كان يدافع عن حيطة مايلة كما يقول إخوتنا المصريون والتي هي اللغة العربية التي استباحها الساسة كما بعض المثقفين وخرجوا لنا عندما سألناهم عن هذا الانحراف بمقولة لا أعجب منها وهي أن اللغة (ما هي إلا وسيلة)... عجبي الأنا الآخر : واستطرادا لما تفضل به الصديق واسيني لعرج في بداية مقالته إياها والتي جاء فيها : لم نعرف كيف نجعل من اللغة الفرنسية مادة إغناء ثقافية لأننا سيسنا المسألة كثيرا وسممنا المناخ الثقافي العام. وقال كذلك : الأمر أتفهمه جيدا لأن اللغة الفرنسية ليست وليدة خيار، ... وربما كانت الجزائر أكثر الدول جرحا لسبب بسيط هو أنها ظلت طوال قرن ونصف تقريبا جزءا من فرنسا، ولنا أن نتخيل الأجيال المتعاقبة التي تربت على هذه الفكرة. ويضيف واسيني: تظل اللغة الفرنسية أداة تواصل مع الآخر الذي لم يعد آخرا، بل صار فينا بوساطة اللغة والثقافة، لقد صرنا اثنين: الأنا، التاريخية والآخر الثقافي. إننا نعتقد بأن هذه الأنا التاريخية التي يتحدث عنها واسيني هي (أنا) تابعة بالدرجة الأولى، وقد فرضت نفسها أكثر في مرحلة ما بعد الاستقلال بالرغم من محاولة بناء الدولة الوطنية على أسس ثقافية وفكرية صحيحة بالضبط كما خطط لها نضال الحركة الوطنية الطويل عندما وقف بالمرصاد في مواجهة المستعمر منذ دخوله البلاد إلى يوم مغادرته. أما لماذا فشلت النخبة التي استلمت الحكم عام (1962) في تحقيق تلك الغاية والوصول بها إلى النهاية السعيدة فذلك يرجع إلى جملة الاختراقات الفرنسية التي بدأ التحضير لها عام (1958) يوم كانت الثورة تحقق انتصاراتها وتأكد وقتها لفرنسا استحالة بقائها على تلك الأرض واستمرارها فيها... اختراقات فعلت فعلها النوعي عن طريق شبكة لا متناهية من بقايا (النخبة) الذين جندتهم فرنسا واستلموا مشعل أسلافهم، وراحوا يشككون في كل صغيرة وكبيرة باستحالة قيام الدولة الجزائرية الحرة بعيدا عن الهوى الفرنسي وما يتبعه ما جعل المناخ الثقافي الواعد أيامها بكل توجهاته العروبية ينهار مع الأسف، ما جعل صديقنا يقول بحزن :»لقد صرنا إثنين، الأنا التاريخية والآخر« ويقول عن الجهد الكبير الذي بذل في ذلك : »لقد كان الأمر يحتاج إلى جهد مضاعف لجعل هذا الأنا يتوالف مع الآخر« وكأن واسيني هنا يريد تذكيرنا بمقولة أحد أشهر الاندماجيين وهو المدعو (إبن جلول) عندما يتوسل مطولا لفرنسا بأن تجعله وأمثاله يتوالفون معها عندما يقول: »إننا نتكلم الفرنسية، ونكتب بها وأظن أننا نحلم بها فلماذا لا تقبلونا في العائلة الفرنسية؟... نحن نطالب بذلك. العربية والنضال الطويل فكما نعلم أنه وبالتوازي مع جملة المقاومات المسلحة التي واجه بها الجزائريون الاستعمار منذ أوائل أيام دخوله كانت هناك مقاومة ثقافية لا تقل أهمية عن غيرها تمحورت بالدرجة الأولى حول الدفاع عن الهوية وعن عنصرها الرئيسي (اللغة) وكيف كانت جمهود الجزائريين في احترام لغتهم وحمايتها بل والافتخار بها. يقول لنا التاريخ بأن الفرنسيين أول ما دخلوا بلادنا اعتمدوا على الترجمة التي كانت سبيلهم الوحيد لتسيير أعمالهم حيث أحضروا معهم مجموعات من المترجمين خريجي مدرسة اللغات الشرقية في باريس، كما كان اليهود وكالعادة أهم وسطاؤهم كذلك.. لدرجة أن الفرنسيين فرضوا تعلم العربية على ضباطهم، ومن يعد إلى سيرة الجنرال (بيجو) سيجد هذا التوجه واضحا، واهتمامهم بالعربية هذا كان ضروريا بالنسبة إليهم لأنها كانت لغة الشعب الذي حاولوا التغلغل بين صفوفه، غير أن هذا الأمر لم يستمر طويلا نظرا لانطلاقتهم بعد فترة في المشاريع المضادة التي ستعمل بالدرجة الأولى على محاربة تلك العربية بين الجزائريين أنفسهم بحجة أن هذه اللغة تقربهم أكثر من الدين الذي يدعو إلى محاربتهم كذلك خشية من أن يؤدي استمرار التعليم بينهم بالعربية إلى المزيد من اليقظة والمقاومة الأمر الذي جعل الجزائريين يقبلون أكثر على لغتهم حتى في البيوت والزوايا التي كانت تفرض عليها القيود، بل ويقبلون عليها بشكل سري أحيانا. ونظرا لعدم تمكن المستعمر من السيطرة على الأمر عمل على تأسيس ما سمي بالمدارس (الفرنسية الاسلامية) (FRANCO MUSUMAN) غير أن العربية وجدت متنفسها الحقيقي في المدارس الحرة التي أطلقها مجموعة من المشايخ الذين عادوا من الأزهر والزيتونة والقرويين ولم تتوقف مطالبات الجزائريين يوما بضرورة احترام لغتهم وحضارتهم التي تمثلها، ودائما يذكرون فرنسا بتعهداتها للداي حسين يوم الاحتلال ورغم أن القمع وسياسة التجهيل، فإن الجزائريين ظلوا مخلصين للغتهم الوطنية والدينية الرسمية، وطبقوا ذلك عمليا حيث راحت كل وسائل إعلامهم (صحف ومنشورات) لا تستخدم إلا العربية، ومن النادر أن تجد منبرا بغير العربية وإذا تصادف وأطلقوا أحدها بالفرنسية فإنه لم يكن إلا لتوجيه الرسائل إلى الفرنسيين ومن معهم من حثالات جنوب أوروبا، وحتى حزب نجم شمال افريقيا الذي تأسس أصلا في عمق فرنسا كانت صحفه بالعربية وحدها وكذلك كانت مدارسه، وقد جاء في أحد بنود برنامجه:(إن تعلم العربية إجباري لأنها اللغة الرسمية للبلاد والتعليم سيكون إلزاميا ومجانيا بها وحدها). ونفس الشيء فعله حزب الشعب الذي تأسس على أنقاضه ومن يعد إلى أدبيات وبرامج هذا الحزب يجد غزارة في هذا التوجه، وكل مطالبه في هذا الصدد اعتبرت انتصارا لكل مبادىء جمعية العلماء التي نعرف جميعا نضالها في هذا الميدان حيث كان نشر وتقديس العربية من صميم وجودها.. أو لم يقل مؤسسها ابن باديس: (أقضي بياضي على العربية والإسلام وأقضي سوادي عليهما). وللتذكير فقط نقول بأن كل فعاليات الحركة الوطنية الجزائرية بمن فيهم (النخبة) و(الشيوعيون) و(النواب) اتفقت وبشكل حاسم حول قضية اللغة العربية، ولو أننا تتبعنا نشاطات رواد الحركة الوطنية المتقدمين الذين واكبوا الاحتلال في بداياته والمتأخرين الذين واكبوا الثورة الكبرى نجد أن قضية اللغة هذه كانت أساسية بالنسبة إليهم، وحتى الصحف القليلة التي صدرت بالفرنسية كانت موجهة إما للشباب الجزائري المثقف بالفرنسية أو (للفرنسيين أنفسهم).. وان أبرز هؤلاء الشباب: مالك بن نبي ومصطفى الشريف وعمار أوزڤان وأحمد طالب الابراهيمي وعلي مراد والشريف ساحلي وغيرهم حيث كان دفاعهم عن العربية وخصائصها بالفرنسية أكثر صرامة وأكثر وقعا.. ¯ يتبع