رغم طابعه المأساوي الذي يرسم إحدى أبرز صور الهمجية الإرهابية التي طالما عانت منها الجزائر وحذرت منها العالم أجمع، يعتبر اعتداء تقنتورين بإن أميناس عنوانا أخر لكفاءة واحترافية القوات المسلحة الجزائرية التي قدمت مجددا الدليل والحجة بان الجزائر ستظل مستعصية على كل أشكال العدوان الذي يتهدد أبناءها وقدرات البلد الاقتصادية منذ سنوات. إذا كان عدد الرهائن خصوصا الغربيين الذين قضوا في عملية احتجاز الرهائن بالمنشأة الغازية بتيقنتورين بإن أميناس كبيرا نسبيا، على اعتبار أن كل روح بريئة تظل غالية بغض النظر عن العدد، فإن المهمة التي اضطلع بها أفراد القوات الخاصة التابعة للجيش الجزائري كانت في غاية الأهمية والخطورة، وقد كللت بالنجاح بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فالتفاصيل التي قدمها الوزير الأول عبد الملك سلال خلال الندوة الصحفية التي قدم خلالها أرقام شبه نهائية حول عدد الضحايا التي خلفها الاعتداء الإرهابي فضلا عن عدد الإرهابيين الذين تم تحييدهم، تؤكد كل ما قيل منذ الخميس ما قبل الماضي عن عملية تحرير الرهائن، ظروفها وملابساتها، فعدد المحررين من الاحتجاز سواء من الجزائريين أو الأجانب كان كبيرا جدا، وهذه الحقيقة تناهت إلى الكثير من العواصمالغربية وسرعان ما غيرت لهجتها في التعاطي مع أحداث تيقنتورين. لقد سمح تدخل القوات المسلحة من تفادي كارثة حقيقية تمس الاقتصاد والبيئة على حد سواء، فعناصر ما تبقى مما يسمى بكتيبة الملثمين، والذين يسمون أنفسهم ب تنظيم الموقعون بالدماء«، خططوا جيدا لتنفيذ اعتداء تيقنتورين، وكانت حساباتهم مبنية على اعتقاد خاطئ بان الجيش الجزائري لا يمكنه التدخل ومحاصرة المنشاة الغازية بسرعة ويلزمه ما لا يقل عن ساعتين للوصول إلى مسرح الاعتداء، وكانت الخطة المرسومة تقتضي أن يتم تفجير المنشاة الغازية وتدميرها عن آخرها وتكبيد البلاد خسائر لا يعلم حجمها إلا الله، فضلا عن كوارث أخرى إيكولوجية يعجز اللسان عن وصف مداها، وبعدها الفرار على مسافة تقدر بحوالي 100 كيلومتر مصحوبين بما لا يقل عن 100 رهينة أجنبية والوصول إلى صحراء النيجر عبر التراب الليبي، ومن ثمة دخول الأراضي المالية. إذن أول نقطة تحسب للجيش الجزائري هي السرعة في تطويق المنشاة الغازية ومنع الإرهابيين من مغادرتها ومنعهم من الوصول على الأماكن الحساسة التي كانوا ينوون تفجيرها، وحقق الحصار كل أهدافه ولم يترك للإرهابيين أي فرصة للمغادرة، ويبقى تقدير الخسائر من مهمة المختصين في هكذا عمليات، فهذا المدير السابق لمديرية حماية الإقليم »الاستخبارات الفرنسية« إيف بوني يصرح لوسائل إعلام جزائرية بان تحرير الرهائن في عملية احتجاز بحجم العملية التي عاشتها تيقنتورين، يخلف حتما ضحايا وسط الرهائن، ويتم تقدير مدى نجاح عملية تحرير الرهائن هنا بالمقارنة بين العدد الهائل من المحررين من جزائريين وأجانب وعدد الرهائن الذي قتلوا في العملية وأجهز عليهم الإرهابيون بعدما فقدوا كل أمل في استعمالهم لتحقيق أهدافهم، علما أن كل المؤشرات كانت تؤكد بان »تنظيم الموقعون بالدماء« ما كان ليترك أحياء وسط الرهائن الأجانب لإدراكه بان المساومة بهم في قضية الحرب التي تخوضها فرنسا في مالي من المستحيلات السبع حسب تقدير الكثير من المراقبين والعارفين بهكذا قضايا. لقد أمر رئيس الجمهورية، يحسب ما تناقلته بعض المنابر الصحفية، بالتحقيق الدقيق فيما سمي ب »الإخفاق الأمني« في تيقنتورين، والمقصود بطبيعة الحال هو التحقيق في مسالة وصول الإرهابيين إلى داخل المنشاة النفطية وتمكنهم من احتجاز الرهائن، خاصة وان الأمر يتعلق بمنشاة غازية جد حساسة وهامة وتضم عدد كبير من الأجانب، يفترض أنها مؤمنة جيدا، وسوف ينكشف المستور في الأيام المقبلة، خاصة مع إصرار بعض العواصمالغربية على معرفة ما حصل بالضبط، فمن غير المنطقي أن يحصل ما حصل، والحديث عن تورط أشخاص من داخل المنشاة النفطية لا يبرر الفشل إذا وصفنا ما حصل بأنه فعلا »إخفاق أمني«، بل يؤكده أكثر ويعطي ذريعة مستقبلا لإعادة النظر في كل الإجراءات الأمنية المتبعة في تأمين المنشاة النفطية الحساسة في الجنوبالجزائري. الحديث هنا عن »إخفاق« تتداخل مسؤولية الكثير من الجهات فيه، ولا مجال بطبيعة الحال للحديث عن أي إخفاق في لتنفيذ عملية تحرير الرهائن، فالعواصمالغربية التي انتقدت في السابق تدخل الجيش الجزائري، وتحدثت عن إمكانية حصول ما أسمته ب »حمام الدم«، والتسبب في عدد غير مبرر من الضحايا، عادت لتعترف بان الجيش الجزائري قام بعمل جبار وغير مسبوق في تيقنتورين، وانقلبت من الانتقاد إلى الإشادة، فتغيرت المفردات ولغة الخطاب، بل إن الكثير من العواصمالغربية، خصوصا لندن وواشنطن فضلا عن باريس بدأت تتحدث عن ضرورة دعم الجزائر في مجهودها في مكافحة الإرهاب، لدرجة أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما ألح على وجوب دعم الجزائر في مجهودها في مكافحة الإرهاب وصرحت رئيسة الدبلوماسية الأمريكية هيلاري بكلينتون، موجهة كلامها للذين انتقدوا تدخل الجزائر في إن أميناس، قائلة : »ليس هناك من عانى أكثر من الجزائريين من شراسة الإرهاب..«، ويلخص هذا الكلام الكثير مما يمكن قوله عن التضحيات الجسام التي بذلتها الجزائر لمواجهة هذه الآفة القاتلة، حتى لما كانت الدول الغربية ومن ضمنها أمريكا تحتضن رؤوس الإرهاب باسم الديمقراطية وحرية الرأي. ولم يكن البيان التوضيحي الذي أصدرته وزارة الدفاع الوطني غير مبرر، بل إن هذا البيان جاء ليسلط الضوء على حقائق ربما طمستها بعض العناوين الصحفية في تعاطيها مع حصيلة العملية العسكرية، فما واجهه الجيش الجزائري ليس مجرد عملية إرهابية عادية كالتي ألفتها الجزائر منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي بل هي عدوان مصدره خارجي، ولا تزال الكثير من خباياها غير ظاهرة للعيان. من جهة أخرى صرحت كاتبة الدولة الأمريكية للشؤون الخارجية هيلاري كلينتون أنه »لا يوجد أدنى شك بأن الأسلحة التي استخدمها الإرهابيون في الاعتداء على المنشأة الغازية بتيقنتورين بالجزائر هي أسلحة قادمة من ليبيا«، فهل يقدر حكام لبيا الجدد أن يفندوا هذا الكلام ويكذبوا كلينتون كما فعلوا مع وزير الداخلية دحو ولد قابلية لما قال بأن الإرهابيين الذين نفذوا اعتداء إن أميناس قدموا من التراب الليبي. كان يفترض بهيلاري كلينتون أن تواصل كلامها لتشرح للعالم مسؤولية الغرب وخصوصا فرنسا التي أحرقت ليبيا وتسببت في المأساة التي تعيشها دول أخرى جنوب الصحراء وفي مقدمتها مالي، ألم تكن فرنسا والحلف الأطلسي الذي ساعدها في مهمتها القدرة فضلا عن بعض عرب الخليج ممن أغرقوا ليبيا بالسلاح والمرتزقة، على دراية ومنذ البداية بان السلاح المنتشر بين من يسمون ب »ثوار ليبيا« سيتسبب في كوارث أمنية في كل المنطقة، هذا إن افترضنا فقط بأن فرنسا دخلت ليبيا لقلب نظام استبدادي وتعويضه بنظام ديمقراطي، ولم يكن القصد ومنذ البداية تبرير تدخلها الظالم في مالي. سيظل الاعتداء الذي استهدف منشأة نفطية في الصحراء الجزائرية يلقي بظلاله على الأحداث الوطنية لأيام أخرى، وسيكتب الكثير من المهتمين ومن المختصين حول خلفيات الاعتداء وأسرار العملية العسكرية الناجحة التي جنبت البلد كارثة حقيقية وأنقذت حوالي ألف شخص من جزائريين وأجانب، وبالتوازي مع ذلك سيتواصل الجدل حول الحرب التي تخوضها فرنسا في مالي..