الحراك الاجتماعي في مناطق جنوب البلاد ليس مجرد جعجعة بلا طحين كما كانت تصور السلطات في السابق، فالغضب من سياسات الحكومة في هذا الجزء الكبير من الوطن حقيقي وخطير أيضا، ولم يعد هناك مجال للنفاق وتغطية الواقع، والمؤكد أن المغامرة بالحلول الترقيعية قد يجر البلد إلى مشاكل لا قبل له بها، في وقت تترصد فيه الأعين من كل جهة كل حركة أو سكون في جزائر يراد لها ربما أن تنحر هي الأخرى ب »ثورات الناتو« التي تصنع الماسي وتتسبب في المجازر في أكثر من قطر عربي. كل محاولات السلطة لإلغاء مسيرة »الكرامة« بورقلة باءت بالفشل، فكان قرابة ال 8 ألاف مواطن على موعد مع مسيرة وتجمع بساحة 27 فيفري ,1962 للاحتجاج ضد ما وصفوها بالحقرة الممارسة في حق الكثير من شباب الجنوب الذي يعاني الأمرين مع العديد من المشاكل وعلى رأسها مشكل البطالة الذي حرك الآلاف دفعة واحدة ولأول مرة، وحتى الإجراءات المستعجلة والاستثنائية التي كشف عنها الوزير الأول عبد الملك سلال وقام الكثير من ولاة الجمهورية بمناطق الجنوب الكبير بتبليغها للشباب الغاضب عن طريق وسائل الإعلام ومن خلال أعيان كل منطقة، لم تكن قادرة على قتل المسيرة في المهد، حتى وإن ساهمت في خفض عدد المحتجين، فخطا ب التخوين والتخويف من التسييس ومن مختلف السيناريوهات التي تحوم حول سكان الجنوب كان لها أثر كبير في تقويض أركان الغضب الاجتماعي وإقناع العديد من المواطنين بتفادي التصعيد، وبدلا من مسيرة المليونية كانت مسيرة ببضعة ألاف من المحتجين الذين رفضوا خطة التهدئة التي عرضها عليهم والي ورقلة، وضربوا موعدا أخرا للسلطات العمومية إذا لم تستجب لكل مطالبهم. لقد فتح والي إليزي علي ماضوي النار على مؤسسات المناولة والشركات البترولية، التي قال بأنها تمثل نقطة سوداء بالولاية، وتحدث الوالي عن خروقات لا يمكن السكوت عليها فيما يتعلق بالتوظيف كشفتها تقارير وصلته في الفترة الأخيرة، والسؤال الذي يطرح هنا هو أين كانت الجهات المسؤولية خلال كل السنوات الماضية، خاصة وأن التجاوزات التي تحدث عنها الوالي ليست بنت الأمس وإنما هي سياسة متبعة من قبل مؤسسات أوكلت لها مهمة التوظيف فضربت عرض الحائط بكل القوانين، وأقامت بدلها بممارسات كانت نتيجتها أن تحول الجنوب الكبير، جنوب الغاز والبترول ومختلف الخيرات التي تشكل قوت قرابة ال 40 مليون جزائري، إلى مقبرة للطاقات الشبانية. الجنوب الكبير يغلي وهذه حقيقة بدأت السلطات في أعلى المستويات تقتنع بحقيقتها، وكل الإجراءات التي وصفت بأنها غير مسبوقة لمعالجة الاختلالات في الجنوب خاصة في مجال التنمية والتوظيف وإعطاء الأولوية لأبناء الجنوب ليس فقط في التوظيف بالشركات البترولية العاملة في المنطقة، ولكن تفعيل الجهوية الايجابية من خلال تمكين إطارات الجنوب من المناصب السامية في سلك رؤساء الدوائر والولاة وفي الحكومة وفي السلك الدبلوماسي ..الخ، فالجنوب هو قطعة من هذا الوطن المترامي الأطراف، وما يجري هذه الأيام من احتجاجات تتحمل مسؤوليتها السلطة وحدها، فهي التي لم تتفطن إلى مشاكل أهل الجنوب إلا بعدما اشتعل الشارع، والمؤسف أن هذه السلطة أقنعت الجزائريين مرة أخرى بأنها لا تتحرك إلا بعدما تشتعل الحرائق ويصبح مستقبل البلد يتأرجح فوق اللهب ويقف على كف عفريت. الحقيقة أنه لا يمكن فصل احتجاجات الجنوب عن المخاطر الأمنية التي تتربص بالبلاد في هذه المنطقة على خلفية الحرب التي تقودها فرنسا ضد المجموعات »الجهادية« في شمال مالي، ويجب أن ننبه إلى أن حراك المواطنين في جنوب البلاد يخدم أجندة الذين خططوا ودبروا للحرب في شمال مالي، وقبلها للتواجد الإرهابي بهذه المنطقة الحساسة التي لا تبعد إلا ببضعة أمتار عن حدود الجزائرالجنوبية. ورغم أهمية كل هذه القضايا التي شغلت الجزائريين وتناقلتها وسائل الإعلام على نطاق واسع خلال الأسبوع المنصرم، إلا أن القضية الأولى التي جلبت لها اهتمام الجميع هي قضية الطفلين هارون وإبراهيم اللذان لم تبكيهما عائلاتهما فحسب ولا حتى قسنطينة فقط بل كافة الجزائريين الذين لا يزالون تحت تأثير الصدمة لهول الفاجعة ولبشاعة الجريمة التي ارتكبت في حق البراءة وبأشنع الطرق، فكانت أجواء تشييع جنازة إبراهيم وهارون حزينة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وأي خطاب لمواساة المفجوعين، وأي كلمات للتخفيف من هول الكارثة لن يفيد، في وقت أصبح فيه الجزائري يعيش هاجس الخوف على أبنائه بشكل يومي. السلطات تقول بان هذه الجرائم مجرد أفعال معزولة ولا يمكن الحديث عن إجرام منظم، لكن ما السر وراء الانتشار الجنوني لحالات الاختطاف والقتل خلال الأشهر الأخيرة، ولما لا تعكف الجهات المسؤولة على دراسة معمقة لهذه الظاهرة لمعرفة خلفياتها، ومن ثمة التصدي لها بالوسائل المطلوبة، فمن حق المواطن أن يخاف على أمنه وأمن أبنائه الذين تترصد لهم الوحوش البشرية في كل زاوية، ومن حقه أن يسأل عن طبيعة الإجراءات التي تبنتها السلطات لمواجهة هذا الإجرام الذي لم يألفه أغلب الجزائريين، فهل هناك إرادة حقيقة لملاحقة هؤلاء الوحوش وإيقاع الجزاء المطلوب بهم والتخلي نهائيا عن سياسة الا عقاب، أم سينسى الجميع ما حصل في انتظار تكرار مآسي أخرى تشبه مأساة إبراهيم وهارون.