1 مطر صباحي، يضرب زجاجَ السّيارة التي تلتهم الطريق السّيار، في حذر تغلب عليه الثقة، موسيقى زرايس معتقة كنبيذةٍ تعمّد القبوُ أن ينساها خازنُها، وأنا غارق في زعشب الليلس للروائي إبراهيم الكوني، ما أروع أن تغرق في روايةٍ تقول الصٍحراءَ بجماليةٍ ممتدةٍ في طريق ممطر. الطريق إلى الغرب الجزائري يمنحك النشوة حتى قبل الوصول إليها، وأنا أتقصّد النشوة هذه الأيام لحاجة في نفسي/ نصّي.. نفسُكَ/ نصُّك، كما يتقصّد حاجّ مثقل بالأوزار مغفرةَ الرّب في بيته العتيق. معتق هذا الطريق معتق هذا السؤال: لماذا لا يموت الإنسان، حين يغرق في بحر الجمال؟ 2 طاوعتني يدي وأنا أقلب الصّفحات، الصفحة التي لا تقلب تغبرُّ. طاوعتني وأنا أفتح نافذة السيارة لأتحسّس الريح، الريح لا تمنح أسرارها لمن لا يتحسّسها. طاوعتني وأنا أخنق صوت النقال حتى لا يزعجني صديق لا يسافر. طاوعتني وأنا أُدخلها في جيبي بحثا عن شيء لا أحتاجه فورا، فعلتُ ذلك كرد فعل على صدمة الحكمة/ حكمة الرواية/ حكمة السّواد/ حكمة العطش. طاوعتني وأنا ألوّح لشجرة وحيدة هناك في الربوة، يلتفت السائق إلى جهة التلويحة.. يسأل: لمن تلوّح؟ طاوعتني وأنا أضعها على فمي حتى لا أتورّط في إجابة تجعلني أبدو مهبولا في عينيه. طاوعتني وأنا أكتب ملاحظة/ ومضةَ شعرٍ على هامش الصّفحة: اليد التي لا تسافر، تحسن كتابة الكلمات الرّاكدة. 3 أية قدرة يجب أن تكتسبها رواية ما حتى تجعلك ترى الطريق قصيرا؟ إلى درجة أنك تستكثر على السائق أجرته.. تحتج، ثم ترضى حين يذكّرك بحقيقة المسافة. يقصر الطريق فيطول عمرُ الرواية، راودتني رغبة في أن أخرج رأسي من نافذة السيارة وأصرخ: يا عمري القصير... كم يجب أن أعيشك حتى أكتب رواياتٍ تقصّر الطريق؟ 4 كان الفتى الذي معنا في سيارة الأجرة يجيب في الهاتف على سؤال حبيبته الماكثة في البيت: أين أنتّ؟ كانت إجابته تتغير كلما أوغلت السيارة في الجغرافيا: خرجنا من الجزائر العاصمة أنا في البليدة أنا في عين الدفلى أنا في الشلف أنا في غيليزان دخلنا معسكر. رجل متغير لامرأة ثابتة. 5 رائع هذا الطريق السيار: يعطي الحقَّ للمركبات القوية في أن تتجاوز المركبات الهزيلة، إلا إذا أبت. لا نجد هذا في مشهدنا الثقافي. 6 أنساني زعشبُ الليلس الذي في رواية إبراهيم الكوني، عشبَ النهار الذي خارج السيارة في الحقيقة: أنساني ما لا يذبل في ما يذبل. 7 ماذا لو كنتُ السائقَ؟ هل كنت سأملك فرصة الغرق في الربيع في الرواية في الذات في حديث الفتى المتغير في حديث الأم الهاربة من الموت في سوريا؟ طبعا: لا أستطيع، فلماذا السؤال أصلا؟ السائق يقرر لا يسأل، وله فلسفته الخاصة في التعامل مع الدائم والطارئ في الطريق، لذلك فهو يرى أي احتجاج من الركاب تشويشا عليه، هل كل الحكام هكذا في العالم العربي؟ هل هذا السؤال مبرر أصلا؟ لا يحق لي أن أستقيل من فعل الانتباه، حتى لا يفوتني سر الربيع/ الرواية/ الذات/ الفتى المتغير/ الأم الهاربة من الموت. لا يحق للسائق ألا ينتبه أيضا، حتى يتفادي الموت. كلنا هاربون من الموت بطريقته الخاصة في ممارسة فعل الانتباه. انتباه: أتفادى الموت ككاتبٍ، بالحرص على ألا أكون سائقا، لأن مقام السياقة يغير مجرى الانتباه. 8 وضعتُ الرواية في حقيبة ظهري، حين شرعت الأم الهاربة من الموت في سوريا تسرد جرحها، لقد بدأت رواية لم تكتب في عرض نفسها، فلماذا أزهد فيها، وأظل معانقا لرواية تحققت بالانكتاب؟ كل ما انكتب يمكن تأجيله، لأنه نجا من الموت. مصيبة الكاتب: أن يزهد في لحظةٍ عرضتْ نفسَها عليه، ويتبنى لحظة عرضتْ نفسَها على غيره. طريق الجزائر العاصمة/ معسكر: 26 أفريل 2013