عتب عليّ صديق مصري استعمالي تعبير الهولوكوست في وصفي لمذابح مصر، وقلت له بأن النازيين هم من يجب أن يعتبوا، فهم سلطوا فظائع الهولوكوست على خصومهم من اليهود وغير اليهود، ولم يسلطوها على أبناء وطنهم ورفاق مسيرتهم. ❍ ولقد اتهمت النخبة الليبرالية المزيفة الإخوان المسلمون بأنهم يبحثون عن الاستشهاد بعد أن أخونوا البلاد، وكان المنطق السليم لو كانوا يعقلون أن يقوموا بعزل التيار الإسلامي وتقزيم وجوده السياسي عبر انتخابات نيابية تشرف عليها القوات المسلحة كسابقاتها، لكن تلك النخبة المزيفة كانت لا تمتلك وجودا جماهيريا يضمن لها مجرد وضعية الأقلية المؤثرة، فاتهمت الشعب بأنه مغيّب وجاهل، ولجأت إلى العسكر الذين تظاهرت بمهاجمتهم في شهور ماضية، وراحت تستفز قوات الأمن للفتك بالمعتصمين، متهمة إياها بالجبن والتخاذل. وقد تكون النتيجة المخيفة لما حدث أن يغرق الجيش في وحل المشاكل الداخلية، ويتزايد اعتماد القوات المسلحة على الدعم الأمريكي، وهو ما يصبّ بالضرورة لصالح إسرائيل. والواقع أن قيادة الجيش خدعت، وهي لم تكن تملك خبرة كافية في التعامل مع خبث السياسة ونفاقها وألاعيبها ودسائسها، وهكذا وضعت حماقة القوة مصر، التي كانت ثورتها مصدر فخر واعتزاز للعالم أجمع، في قائمة أسوأ النظم القمعية في التاريخ. ويتكرر التاريخ بصور أكثر مأساوية. ففي فبراير 1946 خرجت مظاهرة ضخمة من طلبة جامعة القاهرة ضد الاستعمار البريطاني، فتصدت لها قوات الشرطة المصرية أمام جسر على نهر النيل يُسمى كوبري عباس، وسقط عدد من الشهداء لم يتجاوز خمسة، لكن الحادثة ظلت وصمة عار في جبين الحكومة المصرية. ولست أدري ماذا سيقول التاريخ حول مذبحة الأربعاء الماضي، حيث سقط الآلاف على يد قوات الأمن الوطنية، تحت تصفيق المتشدقين بشعارات الديموقراطية والمنادين بالدولة المدنية. ولقد قلت أن ما تعيشه مصر هو ثورة مضادة بكل المقاييس، أجهضت أول تجربة ديموقراطية حقيقية عرفتها مصر في تاريخها العريق، وبرغم أنني تناولت في الشهور الماضية بالنقد الشديد أخطاء الإخوان المسلمين، فإن التعامل الدموي مع الرافضين للانقلاب العسكري لم يكن مجرد خطأ بل كان خطيئة تلعنها كل الشرائع السماوية والمواثيق الدولية، ويعلم المولى عز وجل وحده تداعياتها المأساوية في المدى المتوسط والبعيد. ولن أطيل كثيرا في تصوير ما حدث لأن الصور كافية لاستعراض المأساة التي تعرض لها كل ما ارتبط بالاعتصام ومن ارتبط به، بحيث لم يسلم مسجد أو مشفى أو جثة أو أم لشهيد من تصرفاتِ جعلت كثيرين يقولون بأن إسرائيل لم تقم يوما بمثل ما قامت به قوات الانقلاب المصري. ولقد كان أكثر الأمور إثارة للصدمة ذلك الحجم الهائل من الحقد الذي تعاملت به قوات الأمن مع كل من رفض شعار ثورة 30 يونيو المفتعل والمضحك، وتبرز اللقطات أن ما قام به بعض رجال الأمن كان حيوانية شرسة تتعفف عنها أسود الضواري بل وضباعها. والمتابع لتعليقات مواقع التواصل الاجتماعي سيلاحظ زفرات تثير الأسى، ومن بينها تعليق سيدة تقول بمرارة: .... القناص بينشن (يصوب سلاحه)علي ضحيته، ويضحك وكأنه بيصطاد عصافير. ويتذكر القارئ هنا فيلم البريء الذي قدمه أحمد زكي، وأبرز سادية رجال الأمن، وأبرز كيف نجح النظام في تحويل المجندين البسطاء، والأميين في معظمهم، إلى وحوش كاسرة. بجانب هذا لا يملك المرء إلا أن يشعر بالاشمئزاز من تصرفات النخب التي تهلل للقتل وللتدمير، وتتلذذ بالانبطاح أمام السلطات العسكرية، بل وتتحدث بشبق عن ممارساتها، ووصلت إلى درجة اعتبار قائد الانقلاب خليفة للرئيس جمال عبد الناصر، في حين أن وزير الدفاع الشاب بدا في كل تدخلاته العلنية خجولا حييا مرخوفا، يخفي عينيه وراء نظارة سوداء. وانهال على المعتصمين وابل من الأكاذيب القذرة، كان من أسوأ مظاهره صدوره من أفواه كنا نظنها أنظف وأسمى مما ظهرت عليه، ومن بينها ما قيل عن مسلمات بأنهن يمارسن جهاد المناكحة مع المعتصمين، ومنها اتهام قيادات المعتصمين بأنهم أرسلوا أبناء الشعب المغرر بهم إلى الميادين وأبعدوا أبناءهم، ويشاء القدر أن يكون من أبناء القياديين الذين استشهدوا أسماء، بنت الدكتور البلتاجي ذات السبعة عشر ربيعا. وكان الأمر المهين لشعب متحضر كشعب مصر أن هناك من صدقوا تلك الأكاذيب الوقحة، وراحوا يتلذذون بترديدها، تماما كما صدقوا يوما أن اللاعبين الدوليين الجزائريين جرحوا أنفسهم داخل الحافلة، وسكبوا على رؤوسهم الكيتش أب، لادعاء النزيف. وتبارى الإعلاميون، ممن عرفنا فجورهم إثر زيارة السادات لإسرائيل، في اتهام أنصار مرسي باغتيال رجال الشرطة وبدون دليل واحد يثبت ذلك، لكن النواح المفتعل لم يكبح التساؤلات عن حقيقة استشهاد عدد من رجال الشرطة الشرفاء، وعلى رأسهم ضابط برتبة اللواء، هو الشهيد اللواء محمد عباس في قسم كرداسة بالجيزة، خصوصا وقد أكد وضع الجثة وأماكن الطلقات أنها عملية إعدام واضحة المعالم، قامت بها مجموعات إجرامية من البلطجية، يقال أن عددهم في مصرتجاوز 200 ألف، يعملون بتوجيه من الأمن السياسي. وهكذا يلحق هذا اللواء الشهيد باللواء حمزة البطران، وهو ضابط مصري قتل رميا بالرصاص في محاولة من مجهولين لفتح أبواب السجن وتهريب المساجين من سجن القطا- طريق المناشى بالقناطر في فجر يوم 29 يناير ,2011 وتقول ويكيبيديا أن العملية كانت مدبرة من إحدى الجهات أو الأشخاص الذين أرادوا إحداث الشغب في أحد أيام ثورة 25 يناير. من حرق دور العبادة ؟ ❍ ويتصاعد نشاط مسيحي محموم، بحيث أن صديقة مسيحية، كانت تكتب بالكاد تعليقا واحدا في الشهر على الفيس بوك، أغرقتنا بتعليقات تتجاوز الثلاثين في نحو يومين، وكلها مصحوبة بصور عالية التقنية لكنائس تحترق وتدمر، وهي تنسب ذلك لأنصار الرئيس الأسير، متناسية أن تفجير كنيسة القديسيين في الإسكندرية كان، كما تأكد بعد ذلك، من فعل الشرطة السياسية، ومتغاضية عن أن حرائق الأسبوع الماضي تمت في وقت واحد تقريبا ومتزامنة مع الفض الدموي للاعتصام، أو عندما كان أهالي الشهداء يحاولون استخراج تصريحات دفن موتاهم من إدارات صحية اشترطت عليهم الاعتراف بأن أبناءهم ماتوا بصورة طبيعية، بل وطلب من بعضهم الإقرار بأن الشهيد، الذي يحمل أربع رصاصات في رأسه، قد انتحر، ثم استقر الأمر على أن يشار إلى سبب الوفاة، لكثرة عدد الضحايا، بخطوط لا تعني شيئا. وتكتب عبير الأسود في الفيس بوك قائلة : من يصدق أن الكنائس وأقسام الشرطة والوزارات والمحاكم يسهل حرقها بهذه السهولة عن طريق الإخوان، وهي تحت حراسة الجيش والشرطة خاصة في هذه الأيام، وبدون إصابة أي مسيحي أو أي من أفراد الحراسة، بل إن حرق بعض المحاكم، بما تمتلئ به من ملفات قضايا معينة، يشكل علامة استفهام حول المستفيد من الحريق، وبالتالي المحرض عليه؟ كما أن تأخر وصول المطافئ وترك الحرائق لتأتي على كل شيئ يشكل علامات استفهام عن المستفيد ..؟؟. ولم يكن مفاجئا أن أصوات التنديد التي ارتفعت من الوطنيين الشرفاء، بالتعبير الانقلابي الذي يذكر بتعبير المسيرات العفوية، لم تقترن بتنديد مماثل يستهجن إحراق مسجد رابعة العدوية بدون سبب ولا منطق، اللهم إلا إذا كان تخريب المسجد نتج عن هدمه على رؤوس من احتموا داخله من هجمات الأمن وبلطجيته، لكيلا أقول أنه هدم لمجرد أنه كان يحمي إسلاميين أو يرمز لصمودهم السلمي نحو شهرين. ويواصل الانقلابيون الأكاذيب بإصرار فاجر ومريب، ويتهمون أنصار مرسي بأنهم حرقوا مقر محافظة (ولاية) الجيزة، في حين يؤكد شهود عيان أن المحافظة أخليت تماما من موظفيها قبل اشتعال الحريق، الذي يذكر بحريق البرلمان الألماني المفتعل في الثلاثينيات. ويُتهم المناصرون بحرق جانب من مكتبة الإسكندرية التي مولها الغرب، وبالطبع، لاستعدائه على الهمج الذين يحرقون الكتب، في حين أن أكثر من شهادة نشرت في الفيس بوك تؤكد أن العملية قام بها بلطجية في حماية الشرطة. وفي الفيس بوك، وهو المجال الوحيد المتاح بعد إغلاق كل المنابر المناهضة للانقلاب والتي كان آخرها منبر وائل قنديل في صحيفة الشروق، يقول إسلام أحمد: اليوم فقط تمكنت من أن أستوعب عقلية الناس والجنود من آل فرعون، ممن عاشوا مع موسى عُمْراً، بل هو كبُر بينهم منذ كان رضيعاً، ثم شاهدوا معجزاته الواحدة تلو الأخرى رأي العين، وبعد هذا كله اتبعوا فرعون وهامان!!!! تقريباً نفس عقلية فئات من الناس هذه الأيام، يشاهدون آلة القتل تعمل بوحشية حتى وصل الأمر لحرق البشر، وهم أيضاً يعرفون تاريخ السلطة وتاريخ الأمن النجس ومع ذلك يتبعون الظالمين، ممن يتبارون في سب رئيس أسير لا يستطيع الدفاع عن نفسه. وعلى ذكر مرسي، الذي فشل الانقلابيون في إخضاعه لإرادتهم رغم أنه معزول تماما عن كل ما يحدث في البلاد، أدعو الله ألا تصدق نبوءة الكاتب الرائع وائل قنديل، فنسمع عن انتحاره في سجنه الذي لا يعرف أحد مكانه، ولم تتمكن عائلته من زيارته، مقارنة بالرئيس حسني مبارك، الذي يعيش، منذ تنحيه، في مقر ذي خمسة نجوم، وعلى اتصال مستمر بمحاميه وبمن يريد من الأهل، مما يؤكد أن الثورة المضادة استعادت السيطرة على الأمور. ويتمادى المنافقون في إظهار الولاء للانقلابيين، فبعد استقالة محمد البرادعي من منصب نائب الرئيس المؤقت، انهالت على الرجل الاتهامات من أحفاد أبي لهب، وكان آخرهم محام مرتزق من الإسكندرية، تقدم ببلاغ ضده اتهمه فيه بالخيانة العظمى في حق الوطن لتخليه عن بلاده في هذه المرحلة الحرجة، وتأليب الرأي العام العالمي على مصر بعد تصريحاته بأنه غير موافق على فض اعتصامي رابعة والنهضة بالطريقة التي تمت، وطالب المحامي بمنعه من السفر حفاظًا على الأمن القومي المصري. وكلمتا الأمن القومي أصبحتا اللحن المميز الذي تتغنى به جوقة من الجنرالات المتقاعدين، ممن اعتنقوا العقيدة القتالية لمدرسة السادات، ويحملون ألقاب مملكة في غير موضعها كما يقال، فهذا خبير عسكري وذاك محلل إستراتيجي، ويروح كل منهم يتملق القياد العسكرية ويبرر الأخطاء الغبية التي ترتكبها، وسنجد من بين هؤلاء من يقول بفجور يُحسد عليه أن نظام الرئيس محمد مرسي هو نظام غير شرعي لأنه نتج عن أحداث 25 يناير، التي كانت، كما قال، انقلابا على النظام الشرعي، وهو نظام مبارك بالطبع، ثم يطالب بمحاكمة البرادعي وسحب قلادة النيل منه، والتي أعطيت له إثر فوزه بجائزة نوبل. أصل الحكاية لعلي أدعي بأن التغير السلبي الهائل في المجتمع المصري، الذي عرف عنه دائما أنه مجتمع فنان وطيب ومرتبط بعمق حضاري متميز، بدأ منذ ما أطلق عليها اتفاقية السلام مع إسرائيل، التي فرضت إلغاء نشيد والله زمان يا سلاحي كنشيد وطني، كما قال هيكل، وغيرت العقيدة القتالية من عداء للجار الصهيوني إلى شيء آخر، كان من معالمه السياسية الأمر الساداتي بتكوين معارضة ديكورية لاكتساب رضا الغرب، وكان من معالمه الاقتصادية نظام الانفتاح، الذي يتفق كل الوطنيين على أنه سبب تخريب المجتمع المصري وخلق طبقة من رجال المال، كانت أسوأ من عتاة الرأسماليين قبل ثورة يوليو ,1952 ومن بينهم من ارتبطوا عضويا بالكيان الصهيوني، مثل السيد سالم، مهندس توريد الغاز المصري لإسرائيل بأقل من الأسعار الدولية. وكان من نتائج تغيير العقيدة القتالية مشاركة قوات من الجيش المصري في الحرب ضد عراق صدام حسين، مقابل إلغاء عدة ملايير من الديون المصرية، وتحول القوات المصرية، محدودة العدد والعدة في سيناء بحكم اتفاقية السلام المزعوم، إلى قوات حماية لإسرائيل من المهاجرين الأفارقة، والصحف المصرية كانت مليئة بأخبار قتل أفارقة كانوا يتسللون نحو حدودها، ولم تنشر صحيفة واحدة قتل حرس الحدود الإسرائيلي لإفريقي واحد. وإذا كان هناك في مصر من اعتنق الشعار الذي رفعه السادات والقائل بأن حرب أكتوبر هي آخر الحروب، فإن العدو الصهيوني لم يكن عبيطا ليقبل هذا الطرح. والذي حدث هو أنه استثمر أوهام السادات عن السلام في التسرب إلى كل المواقع التي يستطيع منها تهديد الأمن القومي المصري، ومن أهمها دول حوض النيل، التي كان الرئيس هواري بو مدين قد نجح في انتزاع مقاطعتها لإسرائيل في مرحلة حرب أكتوبر المجيدة. وعبر العقود الأربعة التي تلت اتفاقية كامب دافيد رسخت إسرائيل وجودها في الدول التي كانت الحليف الأول للوطن العربي، من الصين إلى اليونان، ومن الهند إلى أوغندة، ومن كينيا إلى قبرص، واستغلت هدوء الجبهة المصرية للهجوم على لبنان في 1982 ثم في ,2006 وفي الهجوم على غزة في ,2008 بجانب التوسع الهائل في عمليات قضم القدس والضفة الغربية بالاستيطان. والواقع أن الحلم الرئيس لإسرائيل يتجسد في نقطتين رئيسيتين، الأولى إجهاض كل اتجاه مصري لتحقيق التنمية الوطنية وترسيخ الديموقراطية. واذكر بما كنت رويته هنا منذ عدة سنوات عن رد وليم كوانت على سؤال كنت طرحته حول اتفاقية كامب دافيد، وذلك على هامش لقاء فكري في معهد الديبلوماسية الجزائرية، حيث قال الكاتب الأمريكي المعروف بصلاته الواسعة بمراكز القرار الأمريكي، وبحضور وزير الخارجية الجزائري آنذاك، بأنه، لو كان في مصر نظام ديموقراطي حقيقي لما أمكن تمرير اتفاق كامب دافيد، وهذا يعني ببساطة أن تطبيق الديموقراطية متناقض مع اتفاقية السلام، ويؤكد أن إسرائيل ترى في أي نظام ديموقراطي يحقق تنمية حقيقية في مصر خطرا عليها، مما يفسر عدائها الرهيب لنظام عبد الناصر، الذي يحاول الانقلابيون التمسح بذكراه. أما النقطة الثانية التي تسعد بها إسرائيل فهي انشغال الجيش المصري، وهو أقوى جيوش المشرق العربي، بقضايا داخلية تلهيه عن الوجود الإسرائيلي وعن المطامع الصهيونية. ومن هنا ندرك أن الموقف المائع للإدارة الأمريكية من انقلاب يوليو 2013 كان، إلى جانب بعض توسلات عربية، بضغوط إسرائيلية لم تترد في إعلان الحداد على خسارتها لكنز إستراتيجي اسمه حسني مبارك، وأصابها الذعر من انفتاح نظام الرئيس مرسي على إيران، وتعاطفه مع حماس، واستعادته الوجود السياسي المصري على مستوى العديد من دول العالم. وهنا أيضا نفهم سبب المشاكل التي أثيرت من عناصر في الداخل المصري لاستنفاد طاقة مرسي، خصوصا عندما حجّم في ليلة واحدة نفوذ المؤسسة العسكرية، بكل امتداداتها في المجتمع المصري، إدارة وقضاء وإعلاما ومؤسسات اقتصادية، وهكذا ندرك صعوبة المسار الذي اتخذه وهو يواجه فلول نظام مبارك، والقنابل الموقوتة التي تركها المجلس الأعلى للقوات المسلحة على طريق الممارسة السياسية لنظام الحكم الجديد. ومع كل هذا العبء لم يحدث خلال نحو عام عًشُر (1/10) ما عرفه شهر انقلابي واحد من تكميم للأفواه وإغلاق للقنوات واعتقال لكل من يرفض المصادقة على ما يحدث. وهكذا تمكن الطلقاء من سرقة ثورة يناير ,2011 وهو ما كنت حذرت منه علنا منذ شهور. أين أمريكا من كل هذا ؟ واشنطون حريصة على ثلاثة أمور رئيسية، أولها وأهمها أمن إسرائيل ومواصلة العمل باتفاقية السلام، وضمان أن تكون اليد العليا في العلاقات مع الفلسطينيين لتل أبيب، وثانيها الحفاظ على مصالحها النفطية والسياسية في المنطقة العربية، وثالثها التضييق على إيران بكل وسيلة ممكنة. وهذا كله يتطلب علاقة وثيقة مع القوات المسلحة المصرية. لكن السمعة الدولية لواشنطون وللدول الغربية بشكل عام تتطلب أن يمارس الحليف المصري نوعا من الديموقراطية الشكلية، التي تحقق حجما معقولا من الاستقرار السياسي والاقتصادي، بما يضمن عدم المساس بأمن إسرائيل. ومن هنا يأتي الشعور العام بأن النظام الانقلابي في مصر ما كان ليتحرك بدون ضوء أخضر من الولاياتالمتحدة، والدليل هو ميوعة الموقف الأمريكي من الانقلاب، خصوصا بعد أن تأكد أن ادعاءات الضغوط الشعبية المصرية على قيادة الجيش كانت مسرحية هزلية أعطي لها أكثر من حجمها الحقيقي، وسقطت رواية الثلاثين مليون متظاهر ضد مرسي. لكن واشنطون أحرجت بحجم القتل الرهيب، بعد أن كانت قد أقنعت، وربما عبر البرادعي والاتصالات المباشرة بين وزيري الدفاع في البلدين، بأن عملية فض الاعتصام ستعتمد أساسا على خراطيم المياه وقنابل الغاز على أقصى تقدير، وهكذا أصبحت كل شعاراتها الديموقراطية موضع تساؤلات لا تنتهي. ولأن القوم في واشنطون أناس يدرسون كل ما يحدث ويستعدون لما يجب أن يحدث جاء الموقف الأمريكي والغربي الأخير، المتمثل في تصريح أوباما ومسرحية مجلس الأمن، بما بدا للبسطاء أنه محاولة لعقاب النظام الانقلابي، غير أن التمعن في الموقف يشير إلى أنه محاولة مدروسة لاستقطاب عداء شعبي مصري مدروس الحجم ضد الغرب، يتوازى مع العداء الممنهج للرئيس مرسي وأنصاره، واقتران الأمرين يؤكد الادعاء بأن أمريكا تدافع عن نظام مرسي لأن مرسي عميل لأمريكا. وهكذا يُضرب أكثر من عصفور بحجر واحد. والأفق مسدود، إلا إذا أدركت قيادة في مستوى معين أن طريق الخروج هو في التخلص من الرموز التي تنسب لها مسؤولية الهولوكوست. ويبقى أن السقوط الحقيقي كان سقوط اليسار العربي و الليبيرالية المصرية ومعهما نبيل العربي وجامعته العربية، وقبلهما شيخ الأزهر الحائر بين الاعتكاف والتهرب من مسؤولية العلم المسبق بالمجزرة، ويضاف إلى كل ذلك سقوط أسطورة القضاء الشامخ، الذي برأ كل المتهمين باغتيال شباب الثوار، بما في ذلك ضحايا معركة الجمل، وهو متفرغ الآن لتلفيق التهم ضد الرئيس الأسير ورفاقه. ونن أتحدث عن بابا الأقباط، فموقفه يجعلني أترحم على الأنبا شنوده، وقبله على البابا كرلس.