عبر الجيش المصري أضخم مانع مائي عرفه التاريخ في حماية حائط الصواريخ الذي أقامه جمال عبد الناصر لتطوير حرب الاستنزاف إلى حرب تحرير، ثم التزم بما أسماه الفريق سعد الدين الشاذلي آنذاك بالوقفة التعبوية، أي التوقف لمراجعة النفس وممارسة النقد الذاتي والاستعداد لمرحلة جديدة من الصراع، وهو ما كنت سمعته من الفريق الراحل. دوتذكرت هذا وأنا أراجع وضعية القيادة العسكرية في مصر، والتي تضم نخبة متميزة من خيرة العسكريين في الوطن العربي، أتصور أنها تمارس في السلم نفس ما تمارسه في الحرب، دراسة وتخطيطا وتكييفا للمواقف طبقا للمستجدات، ولهذا أتخيل أنها تمارس اليوم وقفة تعبوية تراجع فيها ما حدث منذ الحشد المتلفز في نهاية يونيو، والذي كان خطوة على طريق انقلاب أعلنه القائد الأعلى للقوات المسلحة في الثالث من يوليو، ونتج عنه تفويض جماهيري لقائد الجيش بمواجهة العنف والإرهاب المحتمل، على حد تعبيره، والذي يزعم البعض أنه خدع بصور زائفة قدمت له بالأسلوب الذي برعت فيه ظاهرة صوتية تنتحل صفة النخبة، استعلاء على الجماهير وتشبثا بريادة فكرية تتشبث بتاريخ عريق لم يكن لها فيه أثر أو وجود، كعاطل يتشبث بأمجاد أبيه. وهكذا يبدو أن القيادة تحس أن الأمور تسير نحو طريق مسدود، حيث أن انقلابا لا يؤكد تحكمه في الأمور خلال ثلاثين يوما يجب أن يراجع نفسه ليحدد أخطاء مسيرته وأسباب فشله، برغم الدعم الذي تلقاه بشكل مباشر من بعض العرب، وبشكل غير مباشر من الحليف الأمريكي، وهو ما قيل أنه تم بضغط إسرائيلي، وهي نقطة أتصور أنها لم تفت العسكريين المصريين. هذه الوقفة التعبوية أثارت قلق المجموعات التي دفعت نحو الانقلاب، لأن كبار العسكريين المصريين ليسوا مجموعة من الهواة، وهم يعرفون أن المؤسسة العسكرية هي العمود الفقري للدولة، وأن قوتها لا تكمن فقط في ما تملكه من عتاد وما تضمه من خبراء وإنما أساسا في الارتباط الوثيق بين الجيش والشعب، بكل فئاته وشرائحه وتوجهاته. ولقد كان هذا على وجه التحديد هو ما دفع الجيش في 1977 إلى رفض مواجهة الجماهير، ثم تكرر خلال ثورة 25 يناير ,2011 التي يسميها السيد عطايا، مسؤول ما يسمى مصر فوق الجميع *أحداث*، نعم *أحداث يناير*، مقارنة، كما يقول، بثورة 30 يونيو المجيدة التي أذهلت العالم، والتي يرفع عدد المشاركين فيها، بفجور لا تعرفه من تأكل بثدييها، إلى أربعين مليون متظاهر. وعلينا، لتقبل العدد، أن نتخيل أن فوق كتف كل متظاهر كان يركب متظاهر آخر، يحمل متظاهرا ثالثا فوق كاهله، الذي جلس فوقه رابع، وهكذا يتسع للحشود مكان لا يمكن أن يقف فيه أكثر من أربعة ملايين مخلوق كامل النمو. من هنا نفهم قلق الذين دفعوا القوات المسلحة إلى التدخل، متناقضة مع ما سبق أن قاله الفريق : ما تعرفوش ماذا يعني أن ينزل الجيش إلى الشارع ؟. أولئك يدركون أن الوقفة التعبوبة التي يمكن أن يتخذها الجيش لحماية رابطته العضوية التاريخية مع الجماهير، يمكن أن تدفع القيادة إلى مواقف جديدة لتفادي انزلاق مصر إلى وضعية الدولة الفاشلة، مهما كان حجم الملايير التي تصب عليها. ولعل أكثر من أصابه الذعر هم رجال الأمن السياسي، صاحب السمعة السيئة منذ عهد إبراهيم عبد الهادي وعسكريّه الأسود في نهاية الأربعينيات، والذي استقطبوا عداء الجماهير منذ اليوم الأول لثورة يناير، التي أعادت لمصر تألقا لم عرفه منذ عقود. والبعض يضعون التفجير الذي قيل أنه استهدف وزير الداخلية في إطار عملية مفبركة تقول للجيش أننا كفيناكم مؤونة مواجهة الجماهير، وعليكم الآن حمايتنا من الجماهير. المجموعة الثانية هي عدد من رجال القضاء الذين ارتبطوا، وظيفيا وماليا، بعهد الرئيس حسني مبارك، والذين يتسترون وراء شعار القضاء الشامخ، ويمارسون اليوم عملية انتقامية مفضوحة لا تشرف القضاء في شيئ. ويذكرني هذا بمتجر هائل في جادة الشانزيليزيه بباريس تباع فيه أجمل العطور، ويحس الداخل إليه، خصوصا مع وجود ما يتيسر من الحسان، وكأنه في جنة رضوان. لكن وجود جثة فأر واحد ميت كافية لتجعل رائحة المكان أمرا لا يحتمل. ونفس الأمر ينطبق على مؤسسة القضاء لأسباب أولها أن تاريخ القضاء المصري، بجانب مواقف رائعة لرجاله، عرف أيضا من اتهمهم الشعب بالخيانة العظمى، وأنا أعني هنا، كمثال، بطرس غالي باشا، الذي حكم بالإعدام على شهداء دنشواي الستة في ,1906 ورفاقه من رجال القضاء. ولأن القاضي مقيد بما يتوفر لديه من أدلة ثبوتية توفرها أجهزة الشرطة السرية متعاونة مع عناصر النيابة العامة، يكون التكاتف اللا أخلاقي بين المؤسستين بابا للتزوير وإخفاء الأدلة. وسنجد أن عددا من القضاة الذين ينتمون لعهد مبارك تجاوزوا الحد الأعلى القانوني لممارسة المهنة، وهو ستين سنة، ومنهم كثيرون قيل أنه سجلت عليهم ممارسات تخل بقدسية القضاء، وكلهم كانوا يحسون بأن مقصلة الزمن تقترب من رؤوسهم، رغم أن الرئيس المختطف لم يفعل أكثر من محاولة تطبيق قانون السلطة القضائية المنبثق من إرادة المؤسسة نفسها. هؤلاء جميعا أساءوا لشموخ القضاء، حيث أن الرئيس مرسي لم يحظ بأي حق من حقوق أي متهم بأي جريمة كانت، وهو استقبال أفراد أسرته، وكان التبرير المعلن هو حمايته من الاعتداء عليه، وكأن زوجه ستقتله، أما الهدف الحقيقي فكان التأثير عليه نفسيا ليقدم استقالته من منصبه، وهكذا يجد الانقلابيون البلاد تحت تصرفهم على طبق من فضة، أي أن قرار القضاء كان مسيسا. وعندما فشل المخطط عبر شهرين، تهاطلت التهم التي وجهتها النيابة العامة، السلك القضائي المكلف بالاتهام، وكان النكتة الأخيرة في الاتهامات الموجهة للرئيس، وبعد التحريض على القتل والتخابر مع حماس والهروب من سجن وادي النطرون، هي إهانة القضاء. ويستكمل نادي القضاة التصرفات المؤسفة التي تمس بشموخ القضاء بطرد نحو سبعين قاضيا من النادي، بحجة أنهم تناقضوا مع خارطة الطريق، ثم تؤكد مؤسسة القضاء موقفها من ثورة يناير بتوجيه الاتهام لمعظم رموزها، متهمة إياهم بأنهم عملاء للأجنبي. ولعلي أذكر هنا بأن مصالح المخابرات في دولٍ كانت تشعر بالرعب من الربيع العربي، أطلقت منذ بدايات 2011 حملات تتهم مؤسسات أجنبية بتنظيم ثورات الربيع العربي، وكأن بو عزيزي في سيدي بو زيد كان يعرف ما هي أوتبور وكانساس وكرفاس، التي أمدته بعود الثقاب ليشعل النار في نفسه. وهكذا توجه التهم لقائمة رائعة كانت شرفا، لا لمصر وحدها، بل لكل من يعانون من وطأة الاستعمار الوطني، ومن بينها: وائل غنيم وائل عباس عمرو حمزاوي إسراء عبد الفتاح وائل قنديل أسماء محفوظ أيمن نور احمد دومه علاء عبد الفتاح نواره نجم ابنة نجم الشاعر احمد ماهر حركة 6 أبريل جميلة إسماعيل مطلقة أيمن نور مايكل منير انجي الحداد ، وغيرهم كثيرون. ويضاف لكل المذعورين من الوقفة التعبوية العديد من الإعلاميين والمحسوبين على الفكر والثقافة وحمالات الحطب ومغنيي الكباريهات، وهم الكارثة الكبرى التي أفقدت دور الريادة الفكرية والفنية على الساحة العربية، والذين برز من بينهم من ابتكر لافتة يحاول ترويجها للقضاء على لا فتة رابعة، ورسمت عليها يد بأصبع واحد مرفوع، لا أظنه الأصبع الأوسط. وأتصور أن القيادة الفعلية للبلاد تدرك الآن خطر تقسيم الجماهير الذي يدفع نحوه إعلام يتغنى بأنشودة العار:إحنا شعب وانتم شعب، وتدرك أن ادعاء الإعلام بضآلة المشاركين في التظاهرات ضد الانقلاب التي يعتم عليها هو أمر مضحك، لأنه يتناقض مع الصراخ الهستيري الذي يتهم التظاهرات بأنها تشل الحركة الاقتصادية، وتجعل السواح يحجمون عن الزيارة، والمستثمرين يفرون بأموالهم بعيدا عن أم الدنيا، بالإضافة إلى شل حركة المرور أمام المواطنين الشرفاء، وتدرك أيضا أن افتعال النشاطات الدستورية ليس حلا ناجعا للأزمة الحالية. واستبعاد شريحة هامة من الشعب في عملية الدستور تعبير عن فكر إقصائي استئصالي عرفنا آثاره الدموية عندنا، حيث أن هذا الفكر الذي يستعمل القمع ولا يتورع عن القتل بل والتمثيل بجثث الضحايا سوف يلد إرهابا حقيقيا، قوته الرئيسية الخارقة تكمن في إيمانه بالإرهاب كوسيلة لاسترجاع حقوقه، وإرهاب كهذا لا يمكن أن ينتصر عليه إرهاب الدولة الذي يستمد قوته من سلطاته الوظيفية ومكاسبه المادية. وشيئا فشيئا تكتشف القيادة خلفيات الأقليات اليسارية والقيادات المسيحية التي خيل لها أنها قادرة على استعمال القوات المسلحة كمخلب قط يخلصها من جماعة الإخوان المسلمين، ويعطيها أهمية سياسية لا تبررها قواعد جماهيرية، وهي تواصل دور الوسواس الخناس في التحريض على كل وطني لا يقاسمها العداء للإخوان المسلمين. وستكتشف القيادة أيضا أن تجمعات الميدان الثالث ليست هي الحل، لأنها جموع باحثة عن التموقع ولا تملك برنامجا لما تريد تحقيقه، تماما كبعض الأحزاب الإسلامية التي تقبل بدور المحلل، بإرادتها أو بغيرها. ولن تعجز قيادة الجيش، بخبراتها الميدانية ووسائل استطلاعها المتطورة، عن تلمس حقيقتين سيكون لهما أثر هائل في المستقبل القريب، أولهما أن الإخوان المسلمين ليسو أغلبية المتظاهرين، والثانية أن هناك شبابا جديدا لا يرتبط عضويا بقيادات الإخوان، وبل ويحملها مسؤولية الفشل في اتخاذ المواقف المناسبة في الوقت المناسب، وهذا الشباب هو الذي فرض المشاركة في الثورة على قيادات كانت مترددة أو متقاعسة أو طامعة في ذهب المعز خائفة من سيفه. ولعل صور المتظاهرين وما تعرفه الجامعة ناقوس خطر ينبه الغافلين. من هنا تأتي أهمية الوقفة التعبوية التي تحتاج لشجاعة لا تنقص قيادة أهم الجيوش العربية. وإنها لساعة الحقيقة.