قد يتراجع مَن قال إن الدين أفيون الشعوب لو كان حيًّا يعيش بيننا، في هذا العصر المجنون بكرة القدم عن قوله الذي تناقله عنه مريدو الفكر الاشتراكي أكثر من غيرهم، فالدِّين أصبح اليوم وأمسَى إما أداة لتصفية الحسابات بين الشعوب، أو وسيلة اقتتال دامية بين مذاهب الدِّين الواحد، أو قوة تدمير ذاتي لأبناء الطائفة الواحدة، واحتلت مكانه كرة القدم، بعدما غدت المُخدِّر الأول لأجيال النصف الثاني من القرن العشرين وما تلاها، فلم تعُد الأوطان تقاس بشساعة مساحتها، ولا بعدد سكانها، ولا بكثرة نوابغها وعلمائها وأدبائها ومبدعيها، ولا بِكَمِّ إنتاجها الإنساني والمعرفي والتكنولوجي، ولكنها تقاس بمدى حسن أداء أرجل لاعبيها في كرة القدم، وسِحْر أقدامهم على المستطيل الأخضر، خاصة أنها أصبحت آلة فعالة لامتصاص فائض الانتكاسات، التي تُفرِزها الأزمات المتناسلة على الشعوب، لتدخلها في فرحة هستيرية عارمة حتى وإن كانت مؤقتة . أحدثت مباراة التأهل إلىÅمونديالÅالبرازيل، حالة طوارئ قصوى في الجزائر، أبانت عن الوجه الآخر لشعبٍ ظن سياسيوه أنه فقدَ وطنيته التي تُعتبَر سلاح الدمار الشامل لأية أمة من الأمم، فخرج الجميع شِيبًا وشبابًا رجالا ونساءً كهولا وأطفالا، إلى شوارع كلِّ المدن الجزائرية في »فوضى منظمة« وهم لا يحملون إلا حبًّا للجزائر في قلوبهم، وفي أيديهم راية خفاقة لم يسألوا عمّن استفاد من بيعها، وإن غشَّهم فيها مَن أتى بها من أبعد بلاد الصين، التي تحوّلت إلى مصنعٍ كبير للراية الجزائرية، وجاء من أقصى مدائن الجزائر، شباب لم يُثنِهم البرد عن الوصول إلى ميدان »المعركة« ، ولم تمنعهم الأمطار الغزيرة من أن يحتلوا رقمهم الثاني عشر في الفريق، رغم سوء التنظيم الذي وثّقته كاميرات التلفزيون، وأعين الهواتف النقالة، فامتلأ ملعب »الشاكر« البليدي عن آخره في بضع ساعات، بالنازفة جروحهم والمرهقة أجسادهم، نتيجة الهول الذي عاشوه أو رأوه، قبل أن يحصلوا على تذاكر الدخول للجلوس على كراسٍ إسمنتية لم يَحسُّوا أنها تُشبٍه الزنازن المفتوحة . إذا كان ثابتًا أن المسئولين عن تنظيم إجراءات الدخول إلى تلك المقابلة الحاسمة، لم يكونوا في مستوى حماس الأنصار، حيث كان بالإمكان- مثلا- توزيع تذاكر المقابلة، على مكاتب ولائية، تقوم من خلالها كل ولاية ببيع ما تكون تسلمته من الفدرالية الجزائرية لكرة القدم من تذاكر على الأنصار القادمين منها، مع رفع عدد أبواب الملعب، فإن مناصري الخضر، لم يتركوا »محاربيهم« في صحراء لا تُثمِر، بل جعلوها بهتافاتهم وأهازيجهم تُنبِت وتُثمِر، إلى أن أعلن حكم المقابلة السنغالي عن تأهل الجزائر، الذي اشترك فيه الجميع، ولا فضْل لأحدِ فيه دون سواه، وينقلون الفرحة من الملعب، إلى مختلف شوارع الجزائر، بمدنها وقراها ومداشرها وأحيائها، بل تجاوزوها إلى مختلف القارات، التي أظهرت أن الجزائريين انتشروا كالضياء في كل بقاع العالم، ويتردّد صدى الفرحة الجزائرية الخالصة، في كل البلدان العربية، التي اصطفت شعوبها وراء »الخُضْر« ، بعدما تعثّرت الأقدام بكل الفرق العربية الأخرى، وحالت بينها وبين تأشيرة الذهاب إلى العرس الكروي العالمي، في واحدة من أجمل بلدان أمريكا اللاتينية. صحيح أن »حب الوطن من الإيمان« جِينَة ثابتة أكثر في الجزائري، يرثها جيلٌ عن الجيل الذي يليه، قد تغفو في فترة أو تُنوَّم ، وقد تغيب أو تُدهَس عمْدًا، ولكنها لا تموت، ظهرت قوية مرة أخرى في تلك الأمسية الماطرة من ليلة الثلاثاء الباردة، ولكن الصحيح أيضًا، أن السياسة وأحلافها حينما تتدخّل، يمكن أن تُشوِّه تلك القيمة الإنسانية الراقية، فلاعبو كرة القدم في الجزائرالمحتلة، ممّن كانوا قاب قوسيْن أو أدنى من تحقيق حلم المشاركة في مونديال تلك الفترة، تخلوْا عن حلمهم الجميل، بمجرد أن ناداهم الوطن وانخرطوا- بدون أيّ مقابل ماديٍّ يُذكَر- في ثورة شعبهم ضد الاحتلال، بينما تحصّل كل فردٍ من طاقم كرة القدم في الجزائر »المتأخِّرة« عمّا يفوق الثلاثة ملايير سنتيم، عن نصرٍ لم يصنعوه وحدهم، فقد شارك في إنجازه الملايين، منهم مَن مات في أفراح ما بعد المقابلة، ولم يترحّم عليه أحد، ومنهم مَن جُرِح قبل المقابلة أو بعدها، ولم يذكره الذاكرون في أحاديث نَصْر نوفمبر، وكما نحن بحاجة ماسة إلى جيلٍ رياضيٍّ من طينة رفقاء مخلوفي، فنحن في حاجةٍ أمسّ إلى جيلٍ سياسيٍّ من طينة العربي بن مهيدي، حتى تكتمل الصورة للجزائري . قد تكون »مؤسسة« فريق كرة القدم، هي ما بقي يَجمَع الجزائريين بعدما خذلتهم جل المؤسسات القائمة التي وثقوا بها في جزائرهم المستقلة، وربما هو ما جعل الساسة، يسارعون للاستثمار في هذه الفرحة كلٌّ بطريقته، وهم الذين لم يستطع سياسيٌّ واحد منهم، أن يُجنِّد بعض ما جنّدته الكرة، ولم يقدِر أيّ حزب من الأحزاب القائمة، أن يحشِد ولو قليلا مما حشده »حزب الرياضة«، حتى وسائل الإعلام السمعية البصرية، تحوّلت إلى ملعبٍ مفتوحٍ على كل أنواع الدعاية السياسية، ولو أن المجتمع وجد مَن يقوده فِعلاً كما تقوده الكرة، لتمدّد بسرعة كما تمدّدت الصين في كل الاتجاهات، ولو أن المَدَدَ الشباني الذي هندس المواطنة بطريقة جديدة، وجد مَن يأخذ بيده إلى المستقبل الحقيقي الآمن، لفتحت الجزائر به آفاقًا ربما لم يدخلها غيره، ولكن ما دمنا مُصرّين على البقاء »واقفين« في مكاننا مع شعوب الهامش، سنظل نعبد جِلدًا منفوخًا، يتجلّى الوطن لنا فيه مع كل مقابلة قارية أو عالمية، وبذلك يُصبِح هذا الوطن فقط بحَجْم كرة ... [email protected]