لقد كانت جريدة ''الشعب'' في أوائل السبعينات تفرد صفحة للمواهب الأدبية الشابة والشعرية منها على الخصوص، وكان يشرف عليها الأستاذ الأديب ''مصطفى صواق''.تجرأت ذات يوم أنا المولع بالشعر والشعراء وأرسلت إليه بمحاولة شعرية متواضعة مشفوعة برسالة ضمنتها بعض الآراء والتأملات حول الشعر والأدب بصفة عامة - ولا أذكر لماذا أوردت في سياق حديثي مقولة لكاتب فرنسي من القرن السابع عشر لعله ''لبرويار''، يقول فيها: ''شيء قيل، وجئنا متأخرين''، أذكر أن الأخ ''مصطفى'' وهو يقيّم محاولتي، كتب يقول: ''كيف أيها الشاب تستشهد بكاتب أجنبي وتنسى أن قبله بمئات السنين كان من العرب من قال في نفس المعنى ما هو أجمل وأبلغ، وكان يقصد قول عنترة: ''هل غادر الشعراء من متردم !؟. لهذا تقرر نقله للخارج في ظني ولم يتقرر ذلك انتقاصا من شأن أطبائنا ولا استهانة بالعيادات الجزائرية ثم هناك أمر آخر تجدر الإشارة اليه لو تصفحنا جوازات سفر هؤلاء الناعقين ممن عابوا على ''بوتفليقة'' علاجه في الخارج لتبين لنا أنهم من أكثر المترددين على فرنسا لا من أجل العلاج من داء خطير، بل من أجل الراحة والاستجمام والترفيه في أرقى المحطات والفنادق، بل وحتى الكازنوهات فهل سمعتم أن بوتفليقة سافر إلى فرنسا لقضاء عطلته على شاطىء ''موناكو'' أو مدينة ''كان'' مثلا كما يفعل الكثير الكثير من هؤلاء المفسدين في الأرض هذا من جهة، ومن جهة أخرى لقد كان من بين هؤلاء من لام عليه اتخاذه لقرارات وهو خارج البلاد وهو لوم لا مبرر له ولا معنى له لأنه متناف مع المنطق والعقل السليم فما الفرق في أن يتخذ قرارا وهو في الجزائر أو فرنسا أو الصين أو أي مكان آخر ما الفرق أن يتخذ قرارا وهو في بيته أو في مكتبه أو على متن طائرة تنقله إلى قطر من الأقطار في رحلة عمل أو علاج؟ وما الضرر في أن يصدر تعليماته للوزير الأول وهو في المستشفى هل كان من الأفضل أن يقول لهم إفعلوا ما شئتم فأنا مريض وفي حاجة إلى راحة تامة ؟ إن مثل هذا التصرف من شيم الضعفاءالخائرين لا من شيم أولي العزم من القادة والزعماء من طينة وقامة الرئيس ''بوتفليقة'' الأكيد أن مثل هذه الترهات والأقوال الخرقاء هي التي تشجع الفرنسيين ومن لف لفهم على محاولة التدخل في شؤوننا وأقول محاولة لأهم لن يستطيعوا ذلك مهما حاولوا كما لم يستطيعوا تحقيق ذلك من قبل حتى عندما كانت الجزائر تعاني من ضعف كبير جراء الأحداث المؤلمة التي عرفتها أثناء العشرية السوداء لقد جربوا يومها ولم يفلحوا، أجل إن تحركاتنا العشواء وتعريجاتنا الجوفاء هي من توحي لهم بأنهم قادرون على التأثير في مسارنا السياسي والتحكم في قراراتنا السيادية ولكن هيهات! فلما اللوم إذا على الأجانب، ولماذا نغضب من تطاولهم إذا كان أحد المحللين السياسيين البارزين يقول بالحرف: ''هناك اعتقاد بأن الرئيس الجزائري القادم سيخرج من الكواليس الغربية التي يتردد عليها أصحاب القرار في بلادنا'' فمن أصحاب القرار الذي يتحدث عنهم الأخ عبد العالي رزاقي ويتهمهم بالعمالة التي تكاد ترقى إلى الخيانة العظمى لكن لا عليه: فالأخ عبد العالي'' معروف بتهيئاته ورؤاه التي لا يراها أحد غيره، كلما قرأت إحدى مقالاته إلا وظننت أنني إزاء منجم أو عراف، بل أحد الشيوخ العارفين الملهمين الذين تأتيهم إشراقات إلهية تكشف لهم عن أسرار الكون، أجل إن الأخ عبد العالي، مع احترامي له - يبدو في تحاليله أقرب إلى المنجم منه إلى المحلل الوطني، وإلا كيف يقول عندما كتب يوما ما عن استقبال الرئيس زواره في بهو المستشفى الفرنسي: ''لو كان الهدف من الزيارة هو إشعار المواطنين بأهمية ارتباط الرئيس بالجزائر لكان في القاعة ديكور جزائري وعلم الجزائر...؟ لقد تساءلت يومها لماذا لم يضف أستاذنا الحصيف إلى العلم، الفرقة الموسيقية للحرس الجمهوري لتؤدي التحية للرئيس في مصحة أجنبية وكأني به يريد تحويل قاعة المستشفى العسكري الفرنسي إلى قاعة من قاعات قصر الرئاسة الجزائري، يا أخي عبد العالي، إن الرجل كان في عيادة للعلاج وليس في قصر الإليزي في زيارة عمل رسمية ولذلك فمن الطبيعي والمنطقي أن يستقبل زواره في قاعة عادية وبملابس بسيطة تتلاءم مع وضعه كنزيل مستشفى دون بروتوكول أو أي شيء آخر من مظاهر التشريفات الرسمية، فلولا تأكدي من حبه للجزائر والتزامه الصادق بقضايا الوطن لقلت بأن الأستاذ عبد العالي يغلل ولا يحلل، لكن معرفتي له النابعة من قناعتي بأنه أحد المثقفين الوطنيين الأحرار، تجعلني أكتفي بالقول أن أخانا عبد العالي يرى ما لا يراه الناس، ويقرأ ما لا يقرأه غيره لأن قراءاته من الخيال الذي لا يقبله العقل. والأمثلة كثيرة على ذلك، اكتفي منها بخرجته الأخيرة حول الموريتانية حيث رأى فيها أستاذنا مناورة فرنسية، وتنبأ لها بالفشل وعلله بكون ''أويحيى'' لم ينجح في تنظيم انتخابات تشريعية في الجزائر سنة ,1997 فهل هناك تفسير بل تخريف أغرب من هذا التخريف!؟. فما علاقة مهمة أممية كلف بها أويحيى'' كشخصية سياسية إفريقية، من طرف الاتحاد الإفريقي بانتخابات وطنية أشرف عليها بحكم وظيفته كرئيس حكومة وكان طرفا فيها بوصفه زعيم حزب مشارك فيها!؟. لكن دعنا من هذا فالمجال ليس مجال تقييم تحاليل الأخ ''عبد العالي'' وإن ذكرت بعضا منها، فإنما سقته ضمن تشخيص ذلك الهوس الفكري الذي نلاحظه عند كثير من مثقفينا والذي يتمثل كما قلت، في رؤية يد الغرب ولاسيما فرنسا في كل صغيرة وكبيرة تحدث في بلادنا.. هوس إن دل على شيء، وإنما يدل على مركب النقص المتجذر في نفوسنا دون أن ندري، وليعذرني الأخ عبد العالي على ما قلته، بكل محنة في حقه، وعلى كل حال فأنا أعتقد بأن الاستاذ رزاقي واع تمام الوعي بغرابة ما يكتبه وإلا لما صنفه ضمن ''الكلام الذي لا يقال'' ولا يقوله إلا هو، بعد هذا الاستطراد الطويل والذي آعتذر عنه أعود إلى ما بدأت به حديثي وإلى الأخت ''مسعودة'' مرة أخرى، ومقال آخر قرأته لها تحت عنوان: ''ذاكرة وإخفاقات'' عبرت فيه عن غضب شديد تملكها ذات يوم، عندما زارت معرضا أقيم تحت شعار كبير ألا وهو: ''ذاكرة وانجازات''، وكيف لا تغضب كاتبتنا، خاصة وأنها من جيل الشباب الذي لم يشهد في حياته إلا الفشل الذي ما بعده فشل، لكن ومع تفهمي لغضبها ونقمتي على ما وصلنا إليه من ترد... مع هذا أرى أن حكمها كان قاسيا نوعا ما، لأن مسيرة البلاد - رغم ما اعتراها من نقائص وسلبيات - لا تخلو من إنجازات معتبرة في شتى الميادين كان ذلك خلال الستينات ولا سيما السبعينات، وهي المرحلة التي لم تعايشها الأخت مسعودة بحكم صغر سنها، أجل لقد تحققت أنذاك أشياء إيجابية كثيرة، لكن المسيرة تخللها نوع من الارتجال والتسرع مما أثر على فعاليتها وجدواها، رغم حسن نية السؤولين في ذلك الزمن الجميل. إن فقدان الرؤية الواضحة والدراسة الدقيقة للأولويات والإمكانات، بالإضافة قلة الصرامة وتميّع المسؤولية وضعف المحاسبة لكي أقول انعدامها.. كلها عوامل تسببت في تعثر الكثير من المشاريع والبرامج، ورغم ذلك لا يمكن القول بأن المسيرة كانت كلها إخفاقات. فلقد تحققت أشياء كثيرة في الماضي وأنجزت أخرى لا تقل أهمية في العشرية الأخيرة، ولعل من أهم ما أنجز، تلك البذور التي غرسها الرواد على درب الرجوع بالجزائر إلى لغتها الأصيلة.. بذور أينعت وأثمرت، رغم الأعادي، ولولا ذلك لما كانت الجزائر تزخر اليوم بمئات الكتاب المعربين في مختلف حقول المعرفة، لولا تلك البذور لما تألقت أسماء جزائرية في سماء الفكر والأدب، أسماء أصبحت نجوما تقدر بالصف واستحقت التكريم ونالت الجوائز في عالم الأدب العربي الرحب، إن البلد الذي أنجب أحلام مستغانمي والوسيني لعرج وأمين الزاوي وزينب لعوج وعز الدين مجوبي وربيعة جلطي وسليمان جوادي ومحمد جربوعة ومسعودة بوطلعة على سبيل المثال لا الحصر لأن الأسماء المتميزة كثيرة ولا تسعها الصفحات، بلد كهذا البلد لا يخشى فيه على مستقبل العربية. فرغم الانتكاسة التي أشرنا إليها، فلا زالت الجهود تبذل إلى اليوم على أكثر من صعيد، نذكر منها تلك التي يقوم بها المجلس الأعلى للغة العربية ولجنة الدفاع عن اللغة العربية، بهذا الصدد لا يفوتني أن أنوه برجلين بذلا الكثير في المضمار، أقصد د. العربي ولد خليفة والأستاذ عثمان سعدي جزاهما الله عن العربية والعروبة أحسن الجزاء وأجزله، ومع هذا فأنا متفق مع السيدة مسعودة إلى حد بعيد، لأن الوضع الحالي للبلاد بما يحمله من مشاكل وتعقيدات، لا يسمح بالغلو في التباهي والفخر والانتشاء بما حققناه رغم أننا حققنا الكثير كما أسلفت، لذلك لو تواضع إخوتنا أصحاب المعرض، وأطلقوا عليه تسمية أخرى أقل زهوا مثل ''ذاكرة ومسيرة'' وتركوا تقييم المسيرة للجمهور لجنّبوا أنفسهم صرخة ''مسعودة'' الغاضبة ، ''ألا تستحوا!'' ويبقى في رأيي أنها كانت قاسية جدا يشفع لها في ذلك شبابها المتحمس وغيرتها الشديدة على الجزائر العربية، لذلك ما أختم به هذا الحديث أجمل وأبلغ من أبيات نزار قباني التي تعكس بحق ما يعتلج في صدر ''مسعودة'' وأمثالها من أمواج متلاطمة ثائرة وتلك الأبيات، التي يقول فيها نزار وإذا قسوت على العروبة مرة فلقد تضيق بكحلها الأهداب وإذا صرخت في وجه من أحبهم فيعيش الحب والأحباب ¯ انتهى