جاءني مستغربا ما شاهد من قبل المبدعين والكتّاب في كثير من المهرجانات والمناسبات الثقافية.. ما يشفع لغرابته أنه لا يزال يافعا ومحافظا على أصوله الصحراوية الطيبة والهادئة وأنه لم يغرق في المياه الآسنة للدشرة المسمّاة العاصمة..! هو صحفي أتوسّم فيه المستقبل المشرق إن حرّر روحه من بلد يتنكّر لعلمائه وأبنائه.. ومع ذلك قلتُ له ببرود هذا الواقع الثقافي البائس الذي نحياه: - هل استغربت أن المبدعين لا يحضرون إلا في الجلسات التي تحضرها السلطات المحلية أو الوالي أو الوزير أو الرئيس وأنهم يغادرون بمغادرتهم؟ قال: نعم.. قلت له أن لا أحد يشتغل في مجاله الإبداعي. قال: تصور أني قضيت سهرة مع ثلة منهم كلها عبارة عن نكت جنسية إلى الصباح..إنهم يكرهون النقاش الجاد والسجال المعرفي والمداخلات وما إلى ذلك؟ قلتُ لصاحبي وأنا أنقل الحديث إلى بعد آخر:أجل، يقينا هناك قضية أجيال في هذا البلد وعلى جميع الأصعدة والقطاعات، ولم يسلم منه حتى قطاع الثقافة والفنون والآداب. وإذا أمعنت النظر في المسألة تجد جيل الثورة (ولا أعني المجاهدين أو المناضلين فقط) لا يقدّم تجربته للجيل الجديد، فهو جيل لا يكتب ويصرّ على التحفّظ والتكتّم حتى إن كثير من هؤلاء رحلوا وفي صدورهم خزائن الأسرار والمعلومات لأنهم لم يكتبوا مذكراتهم ولا سيرهم ولا شهادتهم على أحد..! يمضي هؤلاء تباعا ومنهم من كانوا في مناصب ومسؤوليات حسّاسة وهامة في تاريخ البلد السياسي والأمني والثقافي.. لا أحد يستفيد منهم ومن تجاربهم وخلاصة آرائهم، وإذا سألت الأحياء منهم وذكّرتهم بواجب الكتابة والتأريخ ردّ بغير اقتناع: إن شاء الله، قريبا.. هو مجرّد جواب للكفّ عن السؤال اللحوح والخاسر الأكبر هو الوطن.. ومن المفارقة أن الجيل الجديد يرمي الجيل القديم بأنه لا يكتب بينما يكتفي هو بالثرثرة.. تشهد على ذلك هذا الجيش العرمرم من الشعراء والكتّاب والمبدعين الذين لا يشتغلون كثيرا، أي لا يبدعون ولا يملكون الوقت لتطوير أدواتهم الإبداعية والفنية ولا يقتلون القضايا المختلفة بحثا وتفكيرا.. هم لا يفعلون ذلك لأن وقتهم يتّسع للثرثرة والمهرجانات والبهرجة الزائفة، ولصالونات النميمة والحديث في الغياب..! نحن لا نكتب بل نثرثر فقط. "المشهد هناك لمن أراد أن يراه.."! أبو حامد الغزالي