دخل فن الرواية العالم العربي فتقبلناه، وقولبناه وفقا لمفاهيمنا وأذواقنا بحكم أن السرد عنصر من العناصر التي تشترك فيها الشعوب، من متخلفة ومن متحضرة. وصار لهذا الفن عشاق وأنصار وأتباع وكتاب مبدعون بطبيعة الحال، بل إنه يكاد في بعض الأحيان يتفوق من حيث المكانة والشهرة على الشعر، هذا الفن العربي الأصيل. ودخل الفن التشكيلي العالم العربي أيضا فصارت له مكانته، وتجاوز التشكيليون العرب الفكرة السائدة التي تقول إن التجسيم البشري والحيواني من المحرمات. وصارت لنا أجيال من الفنانين التشكيلين، وتعددت المعارض في كل مكان، وانتشرت الدراسات حول هذا الفن أيضا. ودخلت السينما العالم العربي فصارت لها الصدارة بين جميع الفنون عندنا. وبرز بين ظهرانينا سينمائيون كبار وممثلون كبار لا يقلون فنا وقدرة على الأداء الجيد من أبناء هوليوود وغيرها من عواصم السينما العالمية. لكن، وآه من هذه »اللاكن«، بقي الفن الأوبرالي واقفا عند الباب يرتجي الدخول إلى ساحاتنا الفنية والإبحار في تضاعيفها، وما زال على نفس الوقفة، متذللا مترجيا متوسلا. المصريون استقبلوا أوبرا »عايدة« للموسيقار الإيطالي جيوسيبي فيردي عام 1869 بمناسبة افتتاح قناة السويس. لكن »عايدة« بقيت في مكان، بينما وقف المصريون بعيدا عنها بالرغم من أنهم من كبار ذواقة الموسيقى في العالم العربي. وافتتحت دار الأوبرا المصرية، ولكن، لم يبرز موسيقار واحد يعكف على التلحين الأوبرالي. وظلت المحاولات هزيلة في هذا الشأن حسبما تفرجنا على البعض منها ذفي بعض الأفلام السينمائية. أحببت أن أدخل من هذه البوابة لكي أقول إن دار الأوبرا التي نقوم ببنائها اليوم في نواحي مدينة زرالدة سيعرف فيها الفن الأوبرالي نفس المصير، أي إن هذا الفن لن يرفع هامته أبدا بين ظهرانينا. لم يكن لدينا إلى حد الآن من يهتم بالفن الأوبرالي، وأغلب الظن أن الموسيقيين عندنا والملحنين لن يقووا على مقارعة هذا الفن وجهابذته في العالم الغربي. الأوبرا فن غربي مائة في المائة، مضمونا وروحا، أي إنه جوهر حقا وصدقا، والجوهر بمعناه الفلسفي لا ينتقل أبدا من هنا إلى هناك لكي يتخذ لبوسا آخر، وإنما ينتقل بكامل أبعاده ولا يريد أن يغير شيئا من لبوسه الأول والأخير. إذا كنا تقبلنا الموسيقى الغربية، وبعض جوانب فن الهارموني، فإننا لم نتمكن من أن ندرج هذا الفن في موسيقانا الشرقية المقامية، وليس ذلك عن عجز، وإنما عن ذوق. أذننا ما زالت تعشق التطريب، والفن المقامي الشرقي قائم على التطريب، سواء أكان منطلقا من أحزاننا أم من أفراحنا على حد سواء. الأوبرا التي دشنها الاستعمار الفرنسي عندنا في ستينات القرن التاسع عشر تعددت وظائفها، فصارت مسرحا وعروضا موسيقية وغناء ومجالا سياسيا، وبقيت على حالها إلى آخر أيام الوجود الاستعماري بالجزائر، لكنها لم تسر على نفس الطريق في عهد الجزائر المستقلة، واكتفت بأن تكون مسرحا فقط. وأغلب الظن أن أوبرا زرالدة ستعرف نفس المصير، أي إنها ستكون مخصصة للمسرح ولبعض العروض الفنية الأخرى التي لا علاقة لها بالأوبرا أصلا. لم نعرف أن هناك من يهتم بالفن الأوبرالي عندنا، ولم نعرف أيضا أن هناك أصواتا أوبرالية، ولا ملحنين ولا موسيقيين ولا كتابا يضعون الكتيبات الأوبرالية. ولم نعرف أيضا أن هناك من يختلف إلى دار الأوبرا بصورة منتظمة لكي ينصت إلى هذه الأوبرا أو تلك التي صاغها جيوسيبي فردي وروسيني وموزارت وغيرهم. وعليه، فإن الذين يضعون التصورات الثقافية عندنا ما زالوا بعيدين عن واقع الإنسان الجزائري، ومن ثم، عن واقع الإنسان العربي. إنهم يكتفون بالتقاط هذا الاسم أو ذاك من الساحات الفنية الغربية، ويحاولون النسج على هذا المنوال أو ذاك في المجال الفني دون مراعاة أو معرفة بالذوق الجزائري والذوق العربي عامة. الحداثة هي أن نصوغ هذا العالم وفقا لما نريده نحن، وليس على سبيل التقليد الأعمى. الفنون السائدة حاليا دخلت عالمنا بكل طواعية، وعرف الذين أخذوا بها كيف يقولبونها ويصوغونها وفقا لأمزجتنا في المقام الأول. غير أن الذين فكروا في بناء دار الأوبرا في زرالدة أخطأوا التقدير. وإني لأتذكر في هذا المقام ما وقعت عليه عيناي ذات يوم من عتام 1973 في كوناكري عاصمة غينيا. لقد بنى الصينيون دار أوبرا شامخة في هذا البلد، بالقرب من أشجار باسقة وأحراش ملتفة، فكانت معمارا فنيا بحق، لكن الغينيين ظلوا يفضلون آلاتهم الموسيقية التقليدية وطبولهم ورقصاتهم على الأوبرا وعلى غير الأوبرا. ما زلت أتذكر أن جزءا من مسرح البولشوي السوفياتي، وأقول جزءا من هذا المسرح، فضل عام 1975 أن يقدم عروضه في قاعة حرشة الواسعة، ولم يختر مقر ما يسمى بالمسرح الوطني الجزائري حاليبا، أو ما كان يسمى دار الأوبرا في الزمن الاستعماري. وبعد، أليس من واجب الذين يدعون وضع التصورات عندنا في هذا الشأن الثقافي أو ذاك أن يسعوا أولا إلى طرح تصوراتهم على أهل الاختصاص في المقام الأول، أولئك الذين يحاولون تبين الطريق التي ينبغي أن نسير عليها وإلى أين نمضي؟ إنه مجرد تساؤل. وفي هذه الأثناء، لن تكون دار الأوبرا القادمة إلا مكانا قد نعرض فيه بعض المسرحيات ونقدم فيه بعض العروض الموسيقية والتشكيلية وما شابه ذلك. أما الفن الأوبرالي فلا. وأكاد أجزم في غير خطأ بأننا أخطأنا الطريق في هذا الشأن.