ما يسمى ثورات الربيع العربي أفقدت كثيرا من الناس القدرة على التمييز بين الفرص والمخاطر، ففي المثال الليبي انتقل كثير من المثقفين والسياسيين والصحافيين بين مواقع متناقضة دون أن يشعروا بذلك. اللواء المتقاعد خليفة حفتر تحول في ظرف أيام إلى زعيم كبير قد يكون منقذ ليبيا، الحجة هي أن حفتر رفع لواء الحرب على الإرهاب وربما هو بصدد القضاء على الجماعات المسلحة والميليشيات، وهو الآن يبني لنفسه صورة شخصية كاريزمية تجعله قادرا على استقطاب كثير من الفصائل المسلحة التي قاتلت نظام القذافي وشاركت في إسقاطه. هناك تفصيل مهم في مسيرة حفتر يتعلق بالسنوات الخمس التي قضاها في فرجينيا الأمريكية ضيفا معززا مكرما، وهو الذي غادر الجيش الليبي بعد أن وقع في الأسر في تشاد عندما أرسل القذافي جيشه من أجل السيطرة على شريط أوزو الحدودي في حرب غير مبررة، ومن المؤكد أن قضاء سنوات طويلة في ضيافة الأمريكان سيترك آثارا ويخلق ارتباطات تستعمل في الوقت الحاجة. معظم الذين يناصرون حفتر اليوم من المثقفين والسياسيين يفعلون ذلك نكاية في الإسلاميين، غير أن مشكلة ليبيا أكبر بكثير من هذا، وهؤلاء يغفلون حقيقة الدور الأمريكي في إسقاط القذافي، فما كان للحلف الأطلسي أن يتحرك بدون إذن أمريكي، والمثال السوري لا يزال حيا، وظهور الفرنسيين في الواجهة لا يغير في شيء الدور القيادي للولايات المتحدةالأمريكية. الخلاصة هي أن أمريكا التي أسقطت القذافي بالأمس هي ذاتها التي تحرك حفتر اليوم، ومن غير المعقول أن نعارض ما يسمى الربيع العربي بحجة أنه خطة أمريكية، ونساند حفتر رغم أنه بيدق أمريكي. هذا التخبط يؤكد مرة أخرى أن حالة الفوضى التي نعيشها تتجاوز بكثير مظاهر الصراع المسلح، وآثار الدمار، وغياب سلطة مركزية متماسكة في الدول التي هبت عليها عواصف هذا الربيع، إن الفوضى حالة فكرية نعيشها منذ قرون، وهذا الضياع الذي يجعلنا غير قادرين على رؤية معالم الطريق بوضوح هو أكبر عائق على طريق تحررنا.