قد تكون الثورة الجزائرية من أكثر الأحداث التي شهدتها الإنسانية، إبرازًا لإبداع الإنسان وإظهارًا لعبقريته، في مختلف المجالات الاستراتيجية والعسكرية والاتصالية والاستشرافية ، وإذا كنت في هذا الحديث، لا أهدف إلى تعداد مئات الأسماء التي اختطّت للجزائر سفر البطولة، التي قلّ أن توجد في شعبٍ تعرّض إلى ما تعرّض لها الشعب الجزائري، من قتْلٍ وتشريد وتشويه ومسخ، فإنني أودّ أن أذكر واحدًا فقط ممّن سيذكرهم التاريخ الجزائري بصفةٍ خاصة، والتاريخ الإنساني بشكل عام، مع مَن يذكر، وذلك بمناسبة ذكرى رحيله التاسعة، إنه المجاهد والشاعر والمربي محمد شبوكي، الذي أقامت له جمعية مشعل الشهيد، في بداية هذا الأسبوع 14/06/2014 صبيحةً تذكّر، حضرها عدد من أفراد عائلته وعلى رأسهم نجله وحامل همِّه سعدان، وبعض رفاقه في رحلة الجهاديْن، وقليل ممّن التقوه في جزائر بلا احتلال، وقلة ممن تلمّسوا آثاره الأدبية والتربوية بعد ذلك، وهو الذي خلّده ذلك النشيد الرائع الذي جمَع فيه روح المُبدِع الراقية، بإرادة الثائر القوية، برؤية المستقبل الفاحصة، بصرامة المسيِّر المسئولة، نشيدٌ كان في الماضي أصبعًا مباركة، تضغط- في ساحات القتال- على زناد البندقية، في أيدي المقاتلين من أجل الحق الجزائري، وأصبح اليوم وثيقة تاريخية في لوحةٍ فنية رائعة، إنه نشيد: جزائرَنا يا بلاد الجدود، نهضنا نُحطِّم عنك القيود . المبدعون هم دائما قناديل الأمة، ومصابيحها التي تهتدي بنورها، وإذا ما أُريد شرٌّ بأمة، حُجِبت عنها تلك الفوانيس، أو تم تحطيمها، لتتعثّر في سيرها وتتوه من أمامها الطريق، والأمة التي ليس لها مَنْ تقتدي بهم، كثيرًا ما تضيع الوقت والجهد، فتتأخر عن الركب، إن لم نقل إنها تصبح خارج التاريخ، وقد كان للأمة الجزائرية في مبدعيها عبر تاريخها الطويل، قوة تحارب بها أعداءها، وبها انتصرت أيضا في كثيرٍ من الانحناءات التاريخية، التي أعاد تصويبَها رجال خرجوا من وسط معاناة المجتمع، فأفنوْا أعمارهم من أجل أمتهم، وظلوا على مرِّ السنين، يضيئون لمن جاء بعدهم، طريق التحرّر والوحدة والتقدّم، غير أنه في أوقات الرخاء استكان الشعب- بمختلف مُكوِّناته- إلى الزهو بالنفس، وحبْسِها في مُتعة اللحظة التاريخية الماضية، ناسيًّا كل أولئك الذين كان لهم الفضل الأكبر، في وصوله آمنا إلى هذه اللحظة، وقد تجسّدت هذه الحالة في التسيير السياسي، لعشريات السواد والقتل والفساد، حيث تمّت الإساءة- عن سبْق إصرار وترصّد في كثير من الأحيان- إلى كل المعالم الوطنية، كيْ يبدو الخلف مقطوع الصلة عن سلفه، من غير قدوة له ولا مرجعية، مضطربًا في عالمٍ لا مكان فيه، إلا لمن كانت جذوره ضاربة في الأرض، ورأسه في السماء ترصد الغد لاستقدامه. كنت نصف محظوظ حين التقيته في ثمانينيات القرن الماضي بمدينته تبسة، كان- بصرامةٍ لا تُخفيها تقاسيم وجهه- يُشبه الناسك الذي تتطهّر عنده النفس الزائرة، وكان يستمع إلىَّ أكثر مما يتكلم، وأنا الوافد عليه من زمنٍ آخر، مع أن مهمتي الإعلامية كانت تفرض عليّ أن أسكت ليتكلم هو، وفي تداخل صمته بكلامي، لم أصل إلى أن أسأله عن سبب تسمية أهل مدينته له، بعمر بن الخطاب ؟ حينما ترأس بلديتهم، التي ربما يكون ملأها عليهم بالعدل في زمانهم الجميل ذلك، كما يؤكِّد كل مَن يُقِرّ بحسن تسييره وعفافه ونظافة يده، وبعد تسعة أعوام من رحيله، أضاءت جمعية مشعل الشهيد، بقيادة أحد مجاهدي الجهاد الأكبر، المناضل من أجل المواطنة الحقة محمد عباد، أضاءت في ذاك السبت، شمعة لذكرى الرجل، وإن كان احتضنها المجلس الأعلى للغة العربية، الذي يرأسه أحد العاملين على نصرة لغة الأمة الجامعة، الأديب الإعلامي الشاعر عز الدين ميهوبي، واستضافها مجلس الشورى المغاربي الذي يديره المؤمن بوحدة رقعةٍ جغرافيةٍ وحّدتها الأمازيغية والعروبة والإسلام، والساعي إلى تحقيقها سعيد مقدّم، فإن غياب كثيرٍ من الفاعلين في حقليْ السياسة والثقافة يؤكِّد أن هناك مَن يريد إحداث ثقوب في الذاكرة الجماعية للجزائريين، عمْدًا أو جهلا، وقد أدّى غياب هؤلاء إلى تغييب كثير من وسائل الإعلام بمختلف تسمياته، خاصة ذلك الذي يدّعي الاستقلالية، والذي يبدو أنه فضّل- على تغطيتها- استراق النظر إلى عورات الناس، وتتبّع فضائح الشواذ في زواياهم المظلمة، وتسويقها كظاهرة اجتماعية، يحاول إقناع المُتلقِّي على أن المجتمع برمته يمارسها، أما ما ينفع الناس جميعا، فهو عنه لاهٍ بل مضربٌ عن الحديث فيه إلى أجلٍ غير مُسمَّى، وقد أكد بغيابه ذاك، أنه فعلا يساهم في خطة تصغير الكبار، من العلماء والمبدعين والزعماء، وتكبير الصغار، من المتسللين إلى دواليب السياسة والحكم، وهو بذلك يُثبِت فشله في القضايا النبيلة للأمة، ونجاحه في الإشهار للعابثين بحقائق المجتمع والأمة. لم تعد الأسماء الكبيرة عندنا تثير فينا الشعور بالاعتزاز إلى الوطن الذي تُزيِّنه تلك الأسماء العظيمة، وقد أصبحت مجرّد أرقام تائهة في أحشاء التاريخ، مما يُعرِّض روح الانتماء الجماعي للعيش المشترك إلى كل أنواع المخاطر، وربما يكون الجيل الجديد الناشئ على سياسة ''مَن غاب عن العين غاب عن القلب'' قد دقّ ناقوس الخطر وهو يُروِّج لمراجع غربية ساقطة يسير بها على ضلاله إلى غير ما ينفعه، فأين محمد الشبوكي وأبو القاسم سعد الله وأبو القاسم خمّار وغيرهم الكثير، عند هؤلاء الشباب من مادونا ومارادونا وبرنار ليفي وغيرهم، إنها نُذُر سقوط معالم الأمة لا قدّر الله، وما على النخبة- إن كانت- إلا أن تتّحد بعيدًا عن انحباس الساسة ومَن يدور في فلكهم، وتضع أجندة تبدأ بترسيم ذكريات المبدعين الراحلين، وتوفير الرعاية الكافية اللازمة للأحياء منهم، وإعداد خطّة زإغراءٍس للجيل الجديد، تحمله على حب أولئك وهؤلاء، حتى يتجدّد حبُّه للجزائر باستمرار، وكلما تجدد ذلك الحب، كلما تحققت النجاعة المتوخاة من بناء الدولة، لأن النجاعة الحقيقية هي النجاعة الثقافية والعلمية، التي تُعتبَر أساس كل النجاعات الاخرى المتفرٍّعة عنها، وقد يكون مُقترَح السيد محمد عباد بجعل تاريخ رحيل الفقيد الشبوكي موعدا سنويّا لملتقى مغاربي، تُجدَّد فيه قراءة شخصية الراحل، والوعد الذي قطعه الأديب عزالدين ميهوبي على نفسه، بأن يسعى إلى تحويل المقترح إلى حقيقةٍ قائمة مع الذكرى القادمة، قد يكون ذلك بداية السير في الطريق الصحيح . [email protected]