في شهر نوفمبر القادم يكون قد مر على اندلاع ثورة التحرير ستون سنة، ومع ذلك فإن محترفي الفكر والثقافة، في بلادنا، مازالوا يتساءلون عن حقيقة ما وقع في الجزائر ابتداء من ليلة الفاتح نوفمبر عام أربعة وخمسين وتسعمائة وألف حتى يتمكنوا من تقديمه في صورة واضحة إلى أجيال ما بعد استرجاع الاستقلال الوطني. ورد في الصفحة الأولى من ز تاريخ الجزائرس وهو كتاب من تأليف جماعي:سإن المكانة التي تتبوؤها الشعوب في كتب التاريخ لا ترجع إلى القيمة الذاتية لتلك الشعوب، وتعلقها بأرضها، وحبها لوطنها، وشموخها بأنفها، واعتزازها بنفسها، ومدى شجاعتها، وعدالة قوانينها، بقدر ما تتوقف على فصاحتها في الإبانة عن نفسها... فالمؤرخون مضطرون إلى الاعتماد على الوثائق الموروثة. وإذا كانت الشعوب لم تسجل أحداثها، وبقيت خرساء، بكماء، فالتاريخ سيبقي أخرسا أبكما، ساكتا عنها، لا يدرجها في سجلاته، أو يعمد إلى ملء ذلك الفراغ الذي يسترعي الانتباه، باستعمال الشهادات الناقصة والمجحفة، المزورة بالضرورة والتي تتمثل في الكتابات الرديئة التي يدلي بها ويتركها جيران أو أعداء ثرثارون. فالماضي الإنساني يولد في وعي المؤرخ الذي يخضعه لسلسة من الإجراءات التي تخلصه مما قد يكون علق به من التشويه والتحريف والمبالغات وذلك قبل تحويله إلى مادة سهلة الاستيعاب قابلة للتوظيف من أجل فهم الحاضر، لأن الحدث إنما يلد الحدث والدارس الجاد لا يستطيع الإحاطة بأي حدث ما لم يهتد إلى السبب أو الأسباب التي كانت في أساسه والتي انطلقت منها بوادره. والحدث التاريخي المعزول عن غيره لا وجود له في تاريخ الإنسانية جمعاء، كما أن العفوية في وقوع الأحداث الكبرى لا وجود لها، فالأعمال الجليلة كلها لا بد من التخطيط لها. إن تاريخ الجزائر، في جميع حقبه، لم يعالج وفقا لهذه المنهجية العلمية، بل إن مدرسة التاريخ الاستعمارية قد لجأت إلى جميع الحيل لإفراغه من محتواه حتى يتسنى تقديم الإنسان الجزائري في صورة العاجز عن الإسهام في تطوير الحضارة الإنسانية، وتصوير بلاده بأقبح الصور التي تحمل في طياتها مبررات الاحتلال والاستبداد. في هذا السياق، أجمع أعداء الجزائر على أن سجلات التاريخ لم تعرف دولة بهذا الاسم. قال ذلك الجنرال ديغول عشية الذكرى الأولى لتأسيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في الثامن عشر من سبتمبر 1958 عندما أكد في ندوة صحافية:س أنه لم تكن هناك، في أية حقبة من حقب التاريخ، ولا بأي شكل كان، دولة جزائريةس. وفي الرابع عشر من شهر أكتوبر ,1955 صرح رئيس الحكومة الفرنسية السيد ادكارفور أن الجزائر ز لم تكن، أبدا، أمة ولا دولةس. أما الموسوعة الفرنسية فتذكر:س أن هذه الأرض لا يدري أحد متى تكونت، وهي في تسعة أعشارها صحراوية. وحتى اسم الجزائر نفسه، فإنه من نحت فرنسيس (5 هذه إشارات خاطفة لبعض ما كتبه وقاله أعداء الجزائر الذين كانوا يعرفون التاريخ لكنهم، في أعماقهم، يرفضون الحقيقة لأنها لا تخدم ماضيهم وتغطش حاضرهم. أما عن الجيران والأشقاء الأغبياء الثرثارين، فإن كتاباتهم لا تعدو أن تكون امتدادا لما صدر عن الأعداء وذلك لعجز في التحليل وفي التعامل مع الوثيقة لجمود العقل لديهم، ينقل دون تمعن ويبلع دون هضم، ومن ثمة يقول شططا حيث كان يعتقد أنه يفعل خيرا. ومن جملة هذه الأقلام محمد حسنين هيكل الذي نشر على أعمدة الأهرام الصادرة بتاريخ 1965-06-25 :إن الجزائر لم تكن، أبدا، أمة في التاريخس. كتب ذلك على إثر انقلاب التاسع عشر جوان بدافع التعاطف مع الرئيس أحمد بن بلة، لكنه وجد نفسه، من حيث لا يشعر، يسيء للخالع والمخلوع وللشعب الجزائري كله. وكتب زبيار نورهس الصحافي الفرنسي اليساري على أعمدة le nouvel observateur في عددها الصادر بتاريخ 1981-11-07س إن الجزائر تسعى، حثيثا، لاسترجاع أرشيفها من فرنسا طمعا في أن تجد فيه ذكرا لوجودها كأمة في الماضي، لكنها لن تجد ذلك، لأنها لم تكن أبدا أمة في التاريخ. ودون أن نغادر عام ,1981 و بالضبط في الرابع من شهر أوت، نشر زالديمقراطي الحرس وهي مجلة يسارية مغربية افتتاحية مسمومة جاء فيها على الخصوص:س إن الجزائر تحاول الآن الانتقام من التاريخ الذي حرمها الشخصية المستقلة، حيث كانت دائما تابعة وذيلاس. في هذا السياق، كذلك، تجدر الإشارة إلى الكتابات المختلفة التي تعرضت لثورة الزعاطشة عن طريق السرد والرواية انطلاقا من مصدر واحد هو المصدر الفرنسي بكل أنواعه. وإذا كان من حق الأعداء تزوير التاريخ وتشويهه من أجل تبرير عدوانهم، وإذا كان من حق المؤرخين الفرنسيين خاصة وضع المصطلحات والمفاهيم التي تبقينا في حالة الغيبوبة الدائمة، وإذا كنا نجد للجيران والأشقاء عذرا في جمود عقلهم وغرقهم إلى الأذقان في محيط الغزو الثقافي، فإن السلطات الجزائرية المتوالية منذ وقف إطلاق النار، في التاسع عشر مارس سنة اثنتين وستين وتسعمائة وألف، تتحمل المسؤولية كاملة في عدم التصدي للمغالطات التاريخية وعدم رقع الرتق الذي تكالبت أقلام كثيرة على توسيعه، كما أنها ستظل مسئولة عن الانحرافات القاتلة التي وقعت فيها ثورة نوفمبر 1954 والتي أدت، إلى إجهاض هذه الأخيرة متسببة، بذلك، في فتح الأبواب واسعة لعودة الاستعمار بجميع أشكاله. تلكم المسئولية قائمة على الرغم من أن النصوص الأساسية كانت تؤكد، دائما، على حقيقة السيادة الوطنية في جزائر ما قبل الاحتلال. إن العودة إلى سجلات التاريخ، بغير مفاهيم ومصطلحات مدرسة التاريخ الاستعمارية، يدلنا دلالة قاطعة على أن الجزائر، قبل العدوان الفرنسي سنة ,1830 كانت كيانا سياسيا وقانونيا قائما بذاته. معنى ذلك أنها كانت تسير من طرف جهاز بيروقراطي مدني وعسكري له صفات تتجاوز شخصانية المسئولين عليه والمتعامل معهم، أي تتوفر فيه مجموعة من القوانين التي تقنن الواجبات والحقوق وتحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم. وكل هذه الحقيقة تشكل العنصر الأول من عناصر التعريف بالدولة. وكانت قائمة، كذلك، السلطة السيادية التي تمثل ثاني عناصر التعريف بالدولة، حيث كان لهياكل القوة الرسمية وحدها، دون غيرها، مشروعية ممارسة الحق في اتخاذ القرار بجميع أنواعه وتنفيذه بجميع الوسائل. وكانت الجزائر قبل الاحتلال، أيضا، تتوفر على صفة أساسية أخرى من صفات التعريف بالدولة ألا وهي الاعتراف بشرعية الكيان السياسي القانوني داخليا وخارجيا. ذلك أن أغلبية أفراد المجتمع كانوا يقرون للنظام القائم بحق ممارسة السلطة عليهم دون التوقف عند نوعية الإقرار. أما عن الاعتراف الخارجي فتشهد بذلك عشرات المعاهدات والاتفاقيات المبرمة مع عديد الدول الأجنبية. وفيما يخص الشرطين الرابع والخامس ، فإن التدليل عليهما من باب النوافل إذ ليس هناك من ينكر وجود الجزائريات والجزائريين على أرضهم التي تحددت جغرافيا على النحو الذي هي عليه اليوم منذ مستهل القرن السادس عشر الميلادي. هكذا، إذن، فإن الدولة الجزائرية كانت حقيقة ملموسة قبل أن تغتصب سيادتها بموجب العدوان العسكري الفرنسي سنة .1830 ويرجع الفضل في وجود هذه الدولة بكل مقوماتها إلى الفترة العثمانية التي ضبطت هويتها الإقليمية بعد انقسام الدولة الموحدية واندثار الكيانات التي نتجت عن ذلك ولقد تميزت هذه الفترة، كذلك، باختيار العاصمة القارة، ووضع الأجهزة الإدارية الموحدة بالنسبة لكافة القطر وبسن القوانين المنظمة للحياة الاقتصادية والاجتماعية، والمنطلقات المعتمدة في إقامة العلاقات الدولية مع الالتزام بالبقاء في دائرة الحضارة الإسلامية واحترام الأسس الرئيسية التي كانت تقوم عليها الخلافة الإسلامية. إن هذه الدولة، بهذا التعريف وبهذه المقومات، ما زال تاريخها في حاجة إلى دراسات علمية جادة تأخذ في الاعتبار تعمد المصادر الغربية والمحفوظات الأوربية تجاهل أو تشوهيه المصادر العربية والمصادر العثمانية، والتركيز، فقط، على الجهاد البحري الذي تسميه قصدا ز القرصنة «. وبديهي أن طريقة المصادر الغربية والأرشيفات الأوربية في التعامل مع تاريخ الخلافة الإسلامية ممثلة في بيت آل عثمان هي التي قادت، بالتدريج، إلى الإقرار بأن الجزائر كانت، قبل العدوان الفرنسي، تفتقر إلى مقومات الدولة ،حتى أصبح مقبولا، اليوم، لدى معظم إطاراتها الفاعلين، أنها لم تكن سوى إطار جغرافي تسكنه أعداد من القبائل المتنافرة المتناحرة التي لا يستقيم لها شأن إلا بوجود القمع وممارسة العنف. على هذا الأساس، نكرر ضرورة توجيه البحث العلمي في تاريخ الجزائر إلى التركيز على دراسة الأرشيف العثماني باعتباره مصدرا لابد منه لفهم مرحلة التاريخ الحديث ولتسليط الأضواء على مواقع التعتيم المتعمد والمحطات المهملة في مسار المجتمع الجزائري الأصيل. وحتى عندما نضع كل الاعتبارات جانبا ونعود، فقط، إلى عشرات المعاهدات المبرمة بين الجزائر قبل الاحتلال وسائر الدول العظمى الأوربية منها والأمريكية على وجه الخصوص، فإننا نستطيع استخراج كثير من الأدلة على عظمة الجزائر، يومها، وشموخ أنفها في العالمين. يذكر السيد زهنري غاروس في كتابه :تاريخ الجزائر العام، الصفحة 403 : ز لقد أنقذ الملك فرانسوا ألأول عرشه وشعبه بفضل علاقاته مع الجزائر التي كانت تسيطر على البحار وتضغط على شارل الخامس وهنري الثامن اللذين كانا يهددان الأمة الفرنسية بالاحتلال والسؤال الذي يطرح هنا والذي يوجه للدارسين والباحثين الأجانب خاصة هو : كيف يمكن لدولة غير موجودة أن تسعف غيرها وأن تكون مهابة الجانب؟ ثم كيف يمكن ألا يكون السياسيون والعسكريون الفرنسيون قد اطلعوا على هذا الكتاب الذي يشتمل على 1189 صفحة ؟ ودائما في نفس الموضوع ، كتب السيد ''دوغرامون '' وفي ستة 1552 ، أرسل الملك هنري الثاني موفدا خاصا إلى صالح رايس يستغيثه ويطلب منه محاصرة السواحل الاسبانية. وإذ استجاب بايلرباي الجزائر إلى الطلب، فإنه جند أربعين سفينة حربية وهب لمساعدة الفرنسيين ز. وفي الصفحة الواحدة والأربعين من مؤلفه ز واقع الأمة الجزائرية ز كتب السيد مارسيل إيغرتو: لقد استنجد الملك الفرنسي هنري الرابع، سنة 1591 ، برئيس الدولة الجزائرية ز حيدر رايس وطلب منه مساعدته على تحرير مرسيليا من التحالف المقدس الذي كان يضم البابا والبندقية وسويسرة واسبانيا. ■ انتهى