من المؤكد أن الثورات الكبيرة لا تندلع إلا بعد مخاض كبير في تاريخ الأمم والشعوب وبعد معاناة كبيرة .وما من شك أن هناك مجموعات وأفراد وجدوا ليكونوا سببا في ميلاد واندلاع الثورات، ومن ثمة في عمليات التحرر والانعتاق واسترجاع لسيادة للشعوب المستعمرة والمضطهدة في شتى مناطق المعمورة. وعندما نمعن النظر في تاريخ مختلف الثورات التحررية بالعالم نجد أن ثورة أول نوفمبر الخالدة كانت محصلة نهائية لتجارب مريرة وقاسية مرَّ بها لشعب الجزائري على مدى قرن وربع قرن في كفاح متواصل جسدته مقاومات شعبية عرفها الوطن على امتداد رقعته الجغرافية ومساحته الشاسعة بغربه وشرقه، وبشماله وجنوبه. وقد قاد هذه الثورات رجالٌ ونساءٌ أبْلوا البلاء الحسن من أجل استرجاع عزة وسيادة الوطن، حيث كان عبد القادر الذي بويع أميرا للجهاد أول منْ أشعل شرارة مقاومة طويلة الأمد كرجل دولة مميز بعد مواجهات شعبية في شمال الوطن خصوصا في منطقة متيجة والظهرة . وكان الأمير عبد القادر آنذاك شابا لم يتجاوز ال 25 من العمر، ومع هذا فقد تمكَّن بفضل حنكته ومهارته ووطنيته المفرطة من بعث الدولة الوطنية الجزائرية وهي الدولة التي لم تعمر طويلا للأسف،إذ لم تدم سوى أقلَّ من ثلاثة أعوام تمتد من 1837 إلى 1839 كما يؤكد ذلك المؤرخ الكبير الراحل الدكتور أبوالقاسم سعد الله . وقد استخدم العدوكل وسائل العنف والدمار للقضاء على هذه الدولة التي وُلِدتْ من رحم المقاومة . وكان في مقدمة مَنْ عملوا على وأد هذه الدولة الوطنية الجزائرية الفتية ضباطُ وعساكرُ فرنسا بكل أرمادتهم المدمرة، وإلى جانبهم رجال كنيسة وفكر استعماري حاقد من بينهم عالم الاجتماع الفرنسي الكبير والدبلوماسي والسياسي أليكسيس دوتوكفيل الذي قال على لسان يعبر عن حقد كبير :إن من الأهمية بمكان ألا نترك أراضي عبد القادر يقصد الأمير عبدالقادر مدينة أوقرية إلا ودمرناها تدميرا كليا ..وألا نسمح أبدا بإقامة مدن جديدة قد يُلجأُ إليها ثانية(. وهناك نصوص أخرى لا تقل حقدا وشراسة عن هذه لم يطلقها ضباط أوعسكريون، بل تفنن فيها كتاب وشعراء كبار من أمثال فيكتور هيجوصاحب البؤساء ولامارتين الذي يحفظ حتى بعض أطفالنا في المدارس شعره أكثر مما يحفظه أطفال فرنسا أنفسهم . وقد كان رجالات ثورة أول نوفمبر وقادة جبهة التحرير الوطني لاحقا وأغلبهم شبان عركتهم التجارب واستاءوا من الصراعات السياسية ومن الدعوات السياسوية، وهالهم ما رأوا من مجازر رهيبة ارتكبت في حق شعبهم الذي كان يحتفل في مطلع ماي 1945 بانتصار الحلفاء في نهاية الحرب العالمية الثانية يتابعون بحسرة ما يجري في الشمال القسنطيني حيث تحدثت بعض المصادر أن عدد الضحايا ربما يفوق الستين ألفا. ولذلك قرر هؤلاء الشبان وهم يتابعون حرب المواقع وهي تزداد حدة بين ممتهني السياسة وينظرون إلى التهافت الوهمي على الكراسي وحرب الزعامات أن يغيروا من ذلك الواقع المر ومن اتجاه مجرى التاريخ. لقد قرأ أولئك الفتية الثوريون تاريخ الوطن ومقاومات شعبهم مذ وطئت أقدام المحتل تربة الجزائر، وحلَّلُوا نتائج المقاومات التي خاضها شعبهم منذ احتلال الجزائر، وأحصوا المقاومات الكبرى ال 46 والتي كانت تتوزع كالتالي حسب ما يقوله المؤرخون الجزائريون أنفسهم مثلما جاء ذلك في الملتقى الذي عُقد بمقر المجلس الشعبي الوطني في 2009 حول المقاومات الشعبية : 15 مقاومة بالجنوب الجزائري. 12 مقاومة بالوسط. 11 مقاومة بالشرق. 8 مقاومات بالغرب . كما قرأ أولئك الشبان الثوريون من أمثال محمد العربي بن مهيدي وأحمد بن بلة ومصطفى بن بوالعيد وكريم بلقاسم ورابح بيطاط ويوسف زيغود ومحمد بوضياف ومراد ديدوش ومحمد خيضر وحسين آيت أحمد،واستنتجوا ما آلت إليه مختلف التجارب السياسية خصوصا مع ارتفاع درجة الوعي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وخاصة مطالبات الأمير خالد بالمساواة بين الأوروبيين و الجزائريين في الحقوق والواجبات السياسية والاجتماعية والثقافية . كما قرأوا برامج وخطابات وتوجهات مختلف التشكيلات السياسية الجزائرية وما آلت إليه سياساتها سواء منها المطالبة بالاندماج مثل جماعة فرحات عباس أوالمنادون بالاستقلال، كما هوالأمر بالنسبة لنجم شمال إفريقيا الذي تبنى الدعوة للاستقلال منذ 1927 ثم حزب الشعب الجزائري، وأخيرا حركة الانتصار للحريات الديمقراطية التي كانت مواقفها من الاستقلال واضحة لا يشوبها الشك والغموض، إضافة إلى باقي التيارات ومنها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي كانت توجهاتها تركز على التربية والتعليم وحماية الدين الإسلامي من الشعوذة والخرافات وتحصين الجزائريين بالعلم و المعارف، والحزب الشيوعي الجزائري الذي كان عبارة عن تيار مساند للطروحات الاستعمارية الفرنسية إلى جانب اللائكيين الآخرين . ولذلك فإن أولئك الشبان المتشبعين بالفكر الثوري كوسيلة وحيدة لاستعادة السيادة الوطنية المسلوبة واسترجاع الاستقلال والحرية، وانطلاقا من نظرتهم الصائبة من أن الاستعمار لا يفهم المهادنة والحلول السلمية التي باءت جميعها بالفشل الذريع، وأنه ما من لغة تليق بالفكر الاستعماري غير لغة العنف الثوري لاسترداد الحق المسلوب، فقد قرروا أن ينتقلوا إلى الفعل الثوري المسلح اعتمادا على القدرات الذاتية للشعب الجزائري. كانت القوة المستعمرة في ذلك الوقت قد خرجت منتصرة مع حلفائها في الحرب العالمية الثانية على النازية والفاشية وهي تحتل ثلاثة عشر مليون متر مربع من أراضي مستعمراتها آنذاك في الهند الصينية وبعض المستعمرات في إفريقيا، إلى جانب بلدان المغرب العربي الثلاثة الجزائر والمغرب وتونس. وكانت فرنسا مسكونة بمنافسة ضرتها الأوروبية بريطانيا العظمى التي كانت توصف بالإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، حيث كانت هذه الإمبراطورية تتربع على مساحة تزيد عن سبعين مليون كيلومتر مربع من أراضي البلدان التي احتلتها عن طريق الاغتصاب والقوة. لكن فرنسا كانت رغم تلك المساحة التي تحتلها معقدة من ماضيها القريب في الهزائم التي منيت بها جيوشها. فلولا الحلفاء ما كان لفرنسا أن تمحوعار الاحتلال الذي تعرضت له عام 940على يد قوات النازيين تحت قيادة هتلر بعد أن أصبح بطل فرنسا السابق يتان خائنا للمقاومة الفرنسية ولفرنسا ككل . كما أن فرنسا كانت معقدة من الهزيمة النكراء التي ألحقها بها رفاق الزعيم الفيتنامي هوشي منه والجنرال جياب في معركة ديان بيان فوالشهيرة التي انتهت بأسر عشرة آلاف ضابط وجندي فرنسي من بينهم عدد من المجندين من دول المغرب العربي. في ظل هذا الوضع الداخلي للحركة الوطنية الجزائرية المليء بالتناقضات والصراعات وحرب الزعامات والجري وراء سراب الحلول السلمية مع فرنسا، وفي ظل مجريات ما جاءت به الحرب العالمية الثانية على القوة المستعمرة وحلفائها وُلِدت من رحم أزمة حزب الشعب وحركة الانتصار جبهة التحرير لوطني بجناحها العسكري جيش التحرير الوطني كحركة شبانية ثورية كانت متدادا لما عُرف بالمنظمة العسكرية السرية الخاصة في نهاية الأربعينيات.جاء ميلاد جبهة التحرير الوطني هذه الحركة الشبانية الثورية متشبعة أدبيات ومرجعيات الحركة الوطنية عموما وبتاريخ المقاومات الشعبية ضد لمحتل الدخيل، كما جاءت بديلا لكل الحركات السياسية السابقة بمنظور وري براغماتي استشرافي بعيدا عن روح الانهزامية والاتكالية، ورافضة كل الحلول السلمية غير المجدية في الصراع الطويل والدامي ضد المستعمر وبعيدا عن حرب الزعامات الفردية التي كان يجسدها فكر الزعيم مصالي لحاج، أوالفكر الاندماجي لفرحات عباس الذي صرح ذات يوم :إن الجزائر كوطن هي سطورة لم أكتشفها، فقد سألتُ التاريخ، وسألتُ لأموات والاحياء، وزرتُ المقابر، ولم أجدْ أحدا يتحدثُ أو يتكلمُ نها( !!. وكانت نظرة هؤلاء الشبان الثوريين تنأى كذلك عن الفكر العصبوي وعن لصراعات المذهبية والعقائدية العقيمة وخاصة بعد دخول المصاليين ولمركزيين منذ أزمة أفريل 1953 في صراع حاد . وقد انضوى هذا الفريق الثوري الشباني في اللجنة الثورية للوحدة والعمل من فريق من قيادة جماعية منسجمة من 22 شخصا، ثم شكلوا فريق عمل مصغر من ت شخصيات شبانية كان معدل عمر ما يعرف منهم بمجموعة الستة 32 عاما، وإذا ما أضفنا لهم الثلاثة الآخرين الذين شكلوا ما عُرف بقيادة الخارجن إن معدل أعمارهم لم يكن ليتجاوز ال 33 عاما . لقد كانت الأفكار الرئيسية التي جمعت هؤلاء القادة الشبان بعيدة عن كل لاء لا للشرق ولا للغرب، كما أنهم لم يكونوا مرتبطين بأية أيديولوجية خيلة عن الشعب الجزائري وقيمه الأصيلة وعن تربة الوطن الذي ترعرعوا يه وتراثه وتاريخه ودينه . كما أنهم كانوا يثقون في التفاف الشعب حولهم عندما يعلنون الثورة ضد لمستعمر، ولذلك نجد شخصية فذة مثل العربي بن مهيدي يصرح أمام زملائه ي عز زخم الاستعداد انطلاق الثورة بكل ثقة في الشعب الجزائري :ارموا بالثورة للشارع يحتضنها الشعب.. وقد صدقت نبوءة بن مهيدي بعد اندلاع الثورة، حيث كتب في العدد الثاني من جلة المجاهد لسان جبهة وجيش التحرير الوطني الصادرة في 1956: ن ثورة أول نوفمبر 1954 بقيادة جبهة وجيش التحرير الوطني عبارة عن رادة شعبية جبَّارة لتحقيق الحرية والاستقلال .( ولذلك فإن البيان الذي حرره أولئك القادة الشبان لم يكن مجرد صرخة في اد عميق، ولكنه كان ذا أبعاد ومضامين فلسفية ثورية عميقة حملت فكرا ديدا لم يكن مألوفا في لخطابات السياسية لمختلف الأحزاب السياسية لجزائرية ولا حتى في أدبيات الحركة الوطنية في نضالها ضد القوة لاستعمارية . صحيح أن حزب نجم شمال إفريقيا نادى مبكرا بفكرة الاستقلال منذ 1927، وصحيح أيضا أن مطلب الاستقلال كان جزء من نضالات حزب الشعب ثم حركة نتصار، ولكن بيان أول نوفمبر 1954 جاء بأفكار جديدة لم تكن مألوفة ومتداولة في الخطاب السابق لفكر الحركة الوطنية . عندما نرجع لهذا البيان الذي حرره القادة الستة ثم كلفوا الشهيد محمد العيشاوي وهوصحفي متمكن ومثقف متميز بإعادة صياغته وطبعه، نجد أنه يتضمن نظرة جديدة في الفكر الثوري الجديد وتوجها مغايرا في الكفاح الثوري ضد المحتل . فقد دعا البيان بنبرة حادة ورؤية سياسية ثاقبة وشاملة للاستقلال عن القوة المستعمرة السابقة في إطار الشمال الإفريقي، كما حدد البيان بوضوح الهدف من الاستقلال، وهوإقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة في إطار المبادئ الإسلامية . وبلغة وفكر واضح وعزيمة غير مترددة أكد البيان أن الاستقلال لن يتم إلا عبر خوض كفاح شامل بجميع الوسائل، سياسيا وعسكريا ودبلوماسيا وإعلاميا. ولكن البيان فتح نافذة لقادة الاحتلال قصد الاعتراف بالهوية الجزائرية وتحديد آفاق مستقبل العلاقات الجزائرية الفرنسية عن طريق وسائل التفاوض السلمي . وكان هذا البيان العميق في مضامينه وأبعاده والمستند إلى مرجعية عميقة في نضالات الحركة الوطنية وتاريخ الجزائريين لتحرير وطنهم بمثابة المشعل الذي استنارت بأضوائه كثير من الحركات التحررية خصوصا في القارة الإفريقية،مثلما مكن الشعبين الشقيقين المغربي والتونسي من الاستقلال بفعل إرهاصات الثورة الجزائرية . فقد نأت الثورة الجزائرية بقيادة جبهة التحرير الوطني ووفق منظور الفلسفة التي تبناها قادتها بنفسها عن مظاهر الحكم الفردي والزعامات،وكرَّست مبدأ القيادة الجماعية كأسلوب ثوري ناجع لتجاوز القرارات المتسرعة التي قد يتسبب فيها التفرد وحكم الزعامة الفردية. ولا شك أن الصرامة في عقاب وحتى التصفية الجسدية لبعض القادة السياسيين والعسكريين على حد سواء كان لها أبلغ الأثر في مسار الثورة،إذ شكلت عنصرا هاما في نجاحها رغم بعض التجاوزات التي طالت عددا من القادة البارزين لمجرد موقف قد خالف أمر القيادة الجماعية للجبهة . كما أن قيادة جبهة التحرير الوطني مثلما كانت صارمة إزاء بعض الانحرافات في بعض الجهات أومجموعات من المواطنين، فإنها كانت كذلك صارمة في علاقاتها مع مختلف الأشقاء الذين لم تسمح لهم مطلقا بالتدخل في شأن ومسار الثورة مما سبب لها بعض المواقف العدائية التي سرعان ما تجاوزها الثوار بالصرامة المسنودة بالحكمة والمواقف الواضحة التي لا لين فيها ولا تراجع عنها. إن من بين الأسئلة المطروحة الآن: هل أن أفكار الثورة الجزائرية كما جسدتها جبهة التحرير الوطني كحركة ثورية رائدة ما تزال صالحة كبرنامج عمل وفلسفة للمستقبل ؟ أم أنها حتى ولوكانت كذلك فهي تحتاج إلى تعديلات جوهرية وتحيين لتتماشى مع المستقبل ومع تطلعات الأجيال ؟ ثم هل هناك من علاقة في التفكير والممارسة بين الثورة الجزائرية بإشعاعاتها التحررية وبقدسيتها ونظرتها للإنسان ككل وحتى لتعاملها مع عدوالأمس بما في ذلك مع الأسرى، مع ما يسمى الآن بثورات الربيع العربي التي تتفنن في تفكيك الدول وتمزيق الشعوب وفي القتل الهمجي غير المبرر للمسلمين وغير المسلين وخاصة للأسرى؟ وهل حقيقة أننا بعد تسجيل بعض الانحرافات عقب استعادة الاستقلال، وكما قال أحد المناضلين الجبهويين الأستاذ محمد سعيدي رحمه الله حققنا الاستقلال ولم نحقق الحرية !! إن مثل هذه الأفكار والطروحات القاسية أحيانا تحتاج إلى وقفات طويلة وتفكير عميق لابد من أن نطرحها للنقاش العميق خصوصا بين المناضلين المتشبعين بالفكر الثوري المستنبط من الفكر النوفمبري ومن تاريخ الحركة الوطنية ككل . إن ما أومن به أن أفكار وأدبيات جبهة التحرير الوطني ما تزال صالحة لعصرنا هذا ولعشريات قادمة، ولكنها تحتاج لمناضلين ومناضلات متشبعين بالفكر الثوري بمفهوم وروح العصر وبالنظرة الاستشرافية البعيدة المدى بعيدا عن التهييج والتهريج وعن تغييب العقل. فالبعد الاجتماعي للدولة الوطنية الديمقراطية الذي حمله بيان أول نوفمبر بين طياته ما يزال يشكل عنصرا هاما في النضال السياسي وفي الحكم الراشد وفي الممارسة الديمقراطية، ذلك أن تبني القضايا الاجتماعية للمواطن من شأنها أن تجعل فئات عريضة من الشعب تساند برنامج الجبهة وخطابها السياسي وتوجهاتها الاقتصادية والسياسية وتندمج في مسارها المستقبلي. كما أن البعد الديمقراطي كفيل كذلك بجعل الجبهة منبرا حرا لكثير من القناعات والأفكار القادرة على الحوار والتواصل مع الشعب وطرح مختلف مشاكله على بساط البحث وتبنيها وفق منظور استشرافي إزاء ما قد يطرأ من تحولات وتعقيدات اقتصادية واجتماعية وسياسية قصد إيجاد الحلول المناسبة مع كل القوى بما فيها تلك التي قد تخالفنا الرؤى والطروحات ولكن يجمعنا بها رابط الوطن والهوية المشتركة والتاريخ والمستقبل، وكل ذلك بعيدا عن صراع الديكة بين أبناء الجبهة كما يلاحظ اليوم في ظل التعددية بعد تحول الجبهة منذ دستور 1989 إلى حزب سياسي مثل باقي الأحزاب الناشطة في الساحة السياسية . فلسفة جبهة التحرير الوطني في العلاقات الدولية بما فيها علاقات الشمال بالجنوب ومعالجة المعضلات الاقتصادية والأمنية والسياسية ونظرتها لقضايا التحرر وتقرير المصير ما تزال تشكل قاعدة متينة وأساسية لإقامة عالم متكافئ يسوده العدل والمساواة ولا يتغول فيه الأقوياء مطلقا على الفقراء والضعفاء ليكونوا عبيدا له. وإن مسؤوليتنا كمناضلين كبيرة في أن نعيد تلك اللحمة التي رسختها الجبهة في أدبياتها وممارساتها الميدانية على مدى عقود من الزمن ولكن بشرط ألا تكون الجبهة مجرد واجهة للحكم بل قاطرة تقود وقوة سياسية فاعلة في الحكم وفق ما يعطيها الشعب من أصوات حقيقية غير مزيفة. إن الأفكار الجميلة لن تجد طريقها للتنفيذ والرسوخ إلا إذا وجدت مناضلين عقائديين يتشبثون بها ويدافعون عنها، بل ويجددونها كلما لاحظوا أنها بدأت في التآكل ميدانيا، أو أن عزيمة القائمين عليها بدأت في الضمور والفتور.