جاء قرار تفجير الثورة التحريرية المجيدة، نتيجة إرهاصات وترسبات وأحداث تاريخية تراكمت وتعاظمت، في ظل استمرار الجروح العميقة التي أحدثها المشروع الاستعماري الفرنسي في الجزائر، والذي عمل على إيقاف النمو الحضاري للبلاد لمدة 132 سنة، وسعى إلى طمس الهوية الوطنية للجزائريين، وتصفية الأسس المادية والمعنوية التي يقوم عليها المجتمع الجزائري، من خلال اتباع سياسة تستهدف دينه ومعتقده الإسلامي.. غير أن الشعب الجزائري الباسل رفض هذه السياسة في جميع جوانبها، وخاض مقاومة شرسة ضد المحتل، أتبعها بإعلان الكفاح المسلح وثورة عظيمة سجلت مسيرتها بأحرف من ذهب في سجلات التاريخ المعاصر، وانتهت إلى مبتغاها الذي أراده مفجروها الذين جعلوها ثورة حتى النصر. فقد قاوم الشعب الجزائري الاحتلال الفرنسي منذ أن دنست أقدامه أرضه الطاهرة في جويلية 1830، وحارب سياسة العنصرية والتفرقة التي أرادت إدارة الاستعمار الفرنسي فرضها على الجزائريين، لاسيما في المناطق التي عرفت ضغطا فرنسيا مكثفا لتحويل اتجاهها الوطني، حيث اختار الشعب الجزائري طريق المقاومة الشعبية، ثم بعدها الكفاح المسلح الذي كان نتاج حراك سياسي مكثف، قادته أحزاب الحركة الوطنية على اختلاف توجهاتها العقائدية وقناعاتها.. الشعب الجزائري لا يقبل التفرقة والتمييز وحارب الشعب الجزائري سياسة التفرقة الطائفية برفع شعار "الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا" الذي أعلنه العالِم المجاهد عبد الحميد بن باديس، واتبع لأجله من خلال جمعية العلماء المسلمين التي أسسها عام 1931 منهجا نضاليا قام على أساس التربية الإسلامية، لتكوين قاعدة صلبة يمكن أن يقوم عليها الجهاد في المستقبل، وكرست الجمعية نضالها الإصلاحي بفتح مدارس لتعليم ناشئة المسلمين والتصدي للفرنسيين وظلمهم.. وتزامن ذلك مع بروز مقاومة سياسية قادتها أحزاب في الميدان بأفكار متعددة، فمنها ما يرى أن الغاية هي المساواة بالفرنسيين، ومنها ما اعترض على هذه القاعدة بقناعة أن الشعب الجزائري لا يمكن أن ينسلخ عن هويته وخصوصيته، وبرز في هذا التوجه الوطنيون المتحمسون الذين التحقوا بحزب نجم شمال إفريقيا الذي تزعمه مصالي الحاج، وانبثق عنه فيما بعد حزب الشعب الجزائري، ثم حركة انتصار الحريات الديمقراطية. تمادي الاستعمار الفرنسي في سياسة الاضطهاد لم تمض شهور قليلة عن اشتعال الحرب العالمية الثانية، حتى انهارت فرنسا أمام ألمانيا، وبدا للشعوب المستعمرة أن قوة فرنسا لم تكن لتفلح إلا على المستضعفين فقط، واضطرت فرنسا إلى الاستنجاد بالجزائريين ودفعهم إلى الحرب ضد الألمان للدفاع عنها تحت طائل التجنيد الإجباري، الأمر الذي ترتب عنه تردي الأوضاع العامة في الجزائر، ودفع بالجزائريين إلى مطالبة فرنسا بالوفاء بوعدها ومنح حق تقرير المصير للشعوب المستعمرة، بعد نهاية الحرب الكونية، وكان من بين المبادرين ببيان المطالبة هذه؛ زعيم حزب اتحاد الشعب الجزائري فرحات عباس، الذي أسس في مارس 1944 حركة أحباب البيان والحرية، وكان يدعو من خلالها إلى إقامة جمهورية جزائرية مستقلة ذاتيا ومتحدة مع فرنسا، وهو ما سبب خلافا بينه وبين مصالي الحاج الذي عمل دوما على إقناعه بأن فرنسا لن تقدم شيئا للجزائريين، ولن ترضخ إلا للقوة..". ولم يمض وقت طويل حتى استغلت فرنسا خروج الجزائريين في مظاهرات الثامن ماي 1945 في عدد من المدن الجزائرية، لمطالبتهم إياها بمنح الجزائر الاستقلال، حتى ارتكبت مذبحة رهيبة سقط فيها 45 ألف شهيد جزائري، فكان ذلك اليوم المشهود الذي صادف احتفال العالم بالنصر على النازية، تحولا في كفاح الجزائريين من أجل الحرية والاستقلال، بعد أن أدركوا بأن لا سبيل لتحقيق أهدافهم سوى العمل المسلح والثورة الشاملة، فتم توجيه جهود الوطنيين نحو جمع الأسلحة وإعداد الخلايا السرية الثورية، والبحث عن التموين والتمويل لنشاط الكفاح المسلح ضد المستعمر. الدكتور لحسن زغيدي.. الحركة الوطنية استثمرت في سياسة المستعمر لتحضير العنصر البشري والإمكانيات.. في وصفه للظروف التي أدت إلى تفجير الثورة التحريرية، يذكر الدكتور محمد لحسن زغيدي، أستاذ التاريخ بجامعة الجزائر في حديثة ل«المساء"، بأن الوضع العام السائد قبل اندلاع الثورة التحريرية كان يمتاز بمشهدين، عملا على تسريع اتباع خيار الكفاح المسلح، "حيث كانت هناك السياسة الاستعمارية التي اتسمت بتصميم الجيل الرابع من أبناء الكولون المحتلين على فرض الجزائر الفرنسية بوسائل القهر، وتجاهل المطالب التي كانت تدعو إليها الحركة الوطنية، وهذا التصميم بدأ تقريبا بعد عام 1930، أي بعد الإحتفال بمئوية الاحتلال، وتزامن مع تصاعد مفهوم الوطنية لدى الجزائريين، وبشكل خاص، لدى الجيل الذي سيسمى فيما بعد؛ جيل نوفمبر المجيد". ويعتبر الدكتور بأن الأحداث التي واكبت الأحداث بشكل متسارع على الصعيد الداخلي والإقليمي والدولي إبان تلك المرحلة، لاسيما الحرب العالمية الثانية، "كانت كلها تصب في مصب الحركة الوطنية"، ولخص ذلك في كون "الاستعمار الفرنسي عاش تجربة قاسية جراء سقوط بلاده في يد الاحتلال الألماني، وما صاحب ذلك من فضيحة دفعت بالتيار الوطني الجزائري إلى استثمار هذا المكسب في دفع الشباب إلى تبني فكرة التحرير والاستقلال". وذكر أستاذ التاريخ في نفس الإطار، بأنه "بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة، شن الجيل الرابع الفرنسي حربا أخرى ضد المواطن الجزائري الأعزل، عشناها في أحداث شهر ماي 1945 انطلاقا من اليوم الثامن وتجلت مظاهرها للعيان في تلك الإبادة البشرية التي سلطت على الشعب الجزائري، جراء السياسات المستدمرة التي أصبحت فيها قناصة البشر هواية لدى الكولون .." ويعتبر المؤرخ بأن المشهد الثاني الذي ميز المرحلة، يتمثل في تصاعد نشاط الحركة الوطنية الجزائرية "التي استثمرت في هذه السياسة الاستعمارية، لتبين بأن هذا المحتل لا يمكن إطلاقا الوصول معه إلى حل مُرض بالطرق السلمية والمفاوضات والمطالبة عبر البيانات الحزبية، إنما لابد من اختيار الطريق الصعب المتمثل في تكوين جيش وطني بكل المقاييس التدريبية والتكوينية والتحضيرية وتهيئة كل الشروط لنجاحه، لاسيما عبر تهيئة المعدات مهما كانت بساطتها، ليتدرب عليها ويأخذ بزمامها أثناء اندلاع الثورة، وهكذا تشكلت المنظمة الخاصة.." ويصف الأستاذ زغيدي هذه المرحلة، بمرحلة التحضير لتفجير الثورة التحريرية المجيدة فيقول بأن "ما بعد سنة 1947، وخلال السنوات السبع الموالية لها، إلى غاية عام 1954، تم التحضير الجاد للكفاح المسلح من خلال تحضير الفرد بشكل أساسي وتهيئة كل الإمكانيات المادية اللازمة لذلك، فتم بالتالي توفير الفرد المناسب والإمكانيات المادية المناسبة لذلك الظرف، واستكمال التحضيرات التكتيكية والتنظيمية التي بدأت مع تشكيل اللجنة الثورية للوحدة والعمل في مارس 1954، وبعدها مجموعة ال22 في شهر جوان من نفس السنة، ثم تكوين مجموعة ال6 التي قامت بعدة اجتماعات تحضيرية لهذا الغرض.. ثورة بالشعب وللشعب وليس للأفراد.. وبعودته للتفاصيل التي أدت إلى بروز قرار تفجير الثورة ودوافع تشكيل اللجنة الثورية للوحدة، والعمل من قبل مجموعة من الشباب الذين اختاروا عدم تأخير قرار التفجير، أشار الدكتور زغيدي إلى أن هذه اللجنة تم تشكيلها "عندما رجع محمد بوضياف رحمه الله من باريس مع مراد ديدوش، ووجدا أن الوضع في الجزائر منقسم، خاصة داخل الحزب الوطني (حركة انتصار الحريات الديمقراطية) الذي دخل في صراعات داخلية نهشته وقسمته إلى فريقين يمثلان المركزيين من جهة، والمصاليين من جهة أخرى، وهنا رأى بوضياف وديدوش أنه لا يمكن أن تقوم ثورة مثل تلك التي كانت قائمة في تونس والمغرب منذ سنة 1952، مادام الحزب الذي سيقوم بالثورة منقسما، مع الإشارة إلى أن ذلك الوضع طمأن المحتل بأن في الجزائر لن تكون ثورة إطلاقا.."، ويضيف المتحدث في نفس السياق، بأنه أمام هذا الوضع اتفق بوضياف وديدوش مع بعض الحياديين في اللجنة المركزية، مثل لحول حسين وسيد علي عبد الحميد، على أن تشكل لجنة من 4 أو 5 أفراد، يطلق عليها اللجنة الثورية للوحدة والعمل، "أي أن هذه اللجنة منهجها ثوري وتعمل على وحدة الحزب للعودة إلى العمل الثوري"، وهكذا تأسست اللجنة في 14 مارس 1954، "غير أنها عندما وصلت إلى باب مسدود في رأب الصدع ولم شمل الحزب، وجدت نفسها في نهاية مرحلة البحث عن وحدة الحزب وبداية مرحلة الاعتماد على النفس، بدعوة كل منخرطي المنظمة السرية للالتحاق والاجتماع من أجل توفير شروط الكفاح المسلح والانضمام إلى الصف لتجسيد المبدأ المتفق عليه منذ تأسيس النجم سنة 1926، وهو التحرير الشامل للوطن". وحسب أستاذ التاريخ، فقد وجدت مجموعة ال22 التي اجتمعت لبلورة قرار اللجنة الثورية للوحدة والعمل، الأرضية اللازمة لإطلاق الثورة التحريرية، مشيرا إلى أن "هذه الأرضية تتمثل في الإنسان المعد لهذه المهمة، والأمر يتعلق برجال المنظمة السرية التي كانت تضم حوالي 1500 مناضل جاهز ومدرب ومعد للعمل العسكري، ثم الأسلحة التي تم تجميعها سواء في عهد المنظمة أو في المرحلة التي تلتها، والتي تم حصرها في حوالي 400 بندقية حربية والباقي بنادق صيد، فضلا عن كل العوامل الأخرى التي كانت مهيأة لاحتضان الثورة التحريرية، وفي مقدمتها المواطن الوطني الحاضن لها..". ويضيف الدكتور زغيدي في هذا الإطار، أن "حتى المكان الذي يسمى التربة الخصبة التي تنمو فيه الثورة ويحفظ رعايتها، كان متوفرا ويتمثل في الريف الجزائري"، ليخلص إلى أن "كل الظروف كانت مهيأة لإنجاح إطلاق الثورة التحريرية المجيدة، حيث توفر الإنسان والمكان والزمان والفكر، واستطاعت الثورة التحريرية بالتالي، أن تعد الإنسان والبرنامج القوي الذي تصدح به داخليا وخارجيا وحتى داخل بلد المستعمر، لتوضيح أهدافها ومراميها وأبعادها والمهمة التي قامت لأجلها"، مؤكدا بأن مفجري الثورة لم يهملوا البدائل والحلول السلمية وتقديم الاستعداد إلى حل لا تراق فيه الدماء، وتمثل ذلك في بيان نوفمبر.." التحضير لاندلاع الثورة التحريرية تم وضع اللمسات الأخيرة للتحضير لاندلاع الثورة التحريرية في اجتماعي 10 و24 أكتوبر 1954 بالجزائر، من طرف لجنة الستة، بعد أن تقرر تغيير موعد تفجيرها لتفشي سر تاريخ 15 أكتوبر، وناقشت المجموعة بالمناسبة جملة من القضايا الهامة، منها إعطاء تسمية للتنظيم الذي كانت بصدد الإعلان عنه، ليحل محل اللجنة الثورية للوحدة والعمل التي تمخضت عن الصراع القائم بين المصاليين والمركزيين في حركة انتصار الحريات الديمقراطية، حيث تم بالمناسبة، الاتفاق على تسميتها بجبهة التحرير الوطني ودعمه بجناح عسكري، يطلق عليه جيش التحرير الوطني، على أن تحمل الجبهة على عاتقها مهمة أولى أساسية تتمثل في الاتصال بجميع التيارات السياسية المكونة للحركة الوطنية، وحثها على الالتحاق بمسيرة الثورة، وتجنيد الجماهير للكفاح المسلح ضد المستعمر الفرنسي. وحول النقطة المتعلقة بتحديد تاريخ اندلاع الثورة التحريرية، وقع الاختيار على ليلة الأحد إلى الاثنين لأول نوفمبر 1954، طبقا لمعايير تكتيكية، تشمل على وجه الخصوص وجود عدد كبير من جنود وضباط جيش الاحتلال في عطلة نهاية الأسبوع. كما تم تحديد خريطة المناطق وتعيين قادتها، ووضع اللمسات الأخيرة لخريطة المخطط الهجومي لليلة الفاتح نوفمبر، أسفرت هذه المهمة عن ضبط 5 مناطق، تتمثل الأولى في الأوراس بقيادة مصطفى بن بولعيد، والثانية؛ منطقة الشمال القسنطيني بقيادة ديدوش مراد، المنطقة الثالثة؛ القبائل بقيادة كريم بلقاسم، الرابعة؛ منطقة الوسط بقيادة رابح بيطاط، وتتمثل المنطقة الخامسة في منطقة الغرب الوهراني التي أوكلت قيادتها للعربي بن مهيدي، بينما كلف بوضياف كمسؤول وطني، بنقل وثائق الحركة الوليدة إلى الوفد الخارجي، وتم خلال اللقاء أيضا تحديد كلمة السر لليلة أول نوفمبر 1954، التي اختير لها اسمين هما؛ "خالد وعقبة". وأصدرت جبهة التحرير الوطني أول تصريح رسمي لها يعرف ب«بيان أول نوفمبر"، يعتبر بمثابة دستور الثورة ومرجعها الأساسي، وقامت بتوزيعه صباح أول نوفمبر على الشعب الجزائري، حددت فيه التوجهات الكبرى للثورة، مبادئها، وسائلها وأهدافها المتمثلة أساسا في الحرية والاستقلال ووضع أسس إعادة بناء الدولة الجزائرية، كما حددت في البيان الأبعاد السياسية والتاريخية والحضارية لهذا القرار التاريخي.. إطلاق شرارة الثورة التحريرية في الفاتح نوفمبر 1954 تشير بعض الكتابات التاريخية إلى أن عملية تفجير الثورة تمت بمشاركة 1200 مجاهد، كانت بحوزتهم 400 قطعة سلاح تمثلت في بنادق صيد وبعض البقايا من أسلحة الحرب العالمية الثانية، تم جلبها من قبل المنظمة الخاصة عبر منطقة وادي سوف، واستهدفت هجوماتهم المباغتة للعدو الاستعماري، مراكز الدرك والثكنات العسكرية ومخازن الأسلحة ومصالح استراتيجية أخرى، بالإضافة إلى الممتلكات التي استحوذ عليها المعمرون، وتمت الهجومات بعدة مناطق، مدن وقرى عبر المناطق الخمس، كباتنة وأريس وخنشلة وبسكرة في المنطقة الأولى، قسنطينة وسمندو بالمنطقة الثانية، عزازقة وتيقزيرت وبرج منايل وذراع الميزان بالمنطقة الثالثة، الجزائر وبوفاريك والبليدة في المنطقة الرابعة، وسيدي علي وزهانة ووهران بالمنطقة الخامسة، وبلغ عدد العمليات المنفذة، ثلاثين عملية خلفت مقتل 10 أوروبيين وعملاء وجرح 23 منهم، وألحقت بالعدو الفرنسي خسائر مادية تقدر بمئات الملايين من الفرنكات الفرنسية. فيما فقدت الثورة التحريرية في بدايتها عددا من خيرة أبنائها الذين سقطوا في ميدان الشرف، من أمثال بن عبد المالك رمضان وباجي مختار وديدوش مراد وغيرهم.. وهكذا وفي ظل السرية التامة، اندلعت الثورة التي سمحت للجزائر بعد حرب ضروس، دامت أكثر من سبع سنوات، من التخلص من استعمار غاشم طال وجوده ل132 سنة، فكانت نتائجها أن أرغمت فرنسا الإستعمارية على التفاوض الذي توج بإعلان عن وقف إطلاق النار واستقلال الجزائر سنة 1962.