بقلم : عمر بوشموخة ارتبط إسم "وردة الجزائرية" منذ أول ظهور فني لها على الساحة العربية بالقضية الجزائرية، أو بالأحرى بالثورة الجزائرية، بل أنّ الفنانة "وردة الجزائرية" لم يعرف عنها أنها غنّت لغير القضية الجزائرية طوال السنوات التي سبقت الاستقلال الوطني، وهي السنوات التي تألقت فيها ابنة الجزائر كفنانة، احتضنت لهيب الثورة بكل كيانها، ووهبت صوتها ليكون رديفا لصوت الرصاص من بنادق الثوار في جبال الأوراس، وفي أحراش الجزائر، مؤمنة بأنّ رسالة الفن لا تقل أهمية وخطورة عن رسالة الجهاد بالبندقية والرشاش!! فلا عجب أن يتجاوب أزيز الرصاص في أوراس الثورة، مع جلجلة صوت الفنانة وردة الجزائرية• ولا غرابة أن يتزامن ظهور صاحبة هذا الصوت القوي، مع بداية اندلاع الثورة التحريرية المظفرة، يتعانق الصوت والصدى، ويرتسم في الأفق اسم الجزائر خفاقا معلنا ميلاد أمة الأوراس الشامخة!! كان العام 1954 هو الميلاد الذي تأخر عقودا، لثورة شعب وانتفاضة وطن!!••• وكان العام ذاته هو الميلاد الفني لعبقرية صوت، خرج من رحم أم كل الجزائريين، أليست الجزائر هي أم كل الجزائريين؟! في العام 1954 احتفت الساحة الغنائية العربية بصوت جديد مميز••• صوت يحمل نبرات جزائرية بتحديات كبيرة•• أما صاحبة الصوت المتميز، فهي وردة الجزائرية، أو "وردة فتوكي" ولكن حبها للجزائر دفعها لاتخاذ اسم الجزائر اسما يضاف لاسمها فاختارت واختار القدر أن يكون اسم "وردة الجزائرية" هو الاسم الذي يلازمها وتعرف به في الأوساط الفنية والعربية، وفي ذلك رسالة واضحة لا تحتاج إيضاحا أكثر•• فارتباط اسم "وردة" باسم "الجزائر" قصة حب لم يكتبها من قبل إنسان، ولكن القدر وحده كتبها بأحرف من نار ونور!!• أما العمل الفني الذي ظهرت فيه "وردة الجزائرية" لأول مرة، فهو نشيد "الوطن الأكبر" الذي وضع ألحانه الموسيقار "محمد عبد الوهاب" وشاركت فيه مجموعة من ألمع نجوم الغناء العربي، مثل "عبد الحليم حافظ - نجاة الصغيرة - صباح شادية - وردة الجزائرية"••• وقد غنّت في هذا النشيد الجزء المخصص للثورة الجزائرية وهي في بدايات انطلاقها• في نشيد "الوطن الأكبر" الذي يعبّر مضمونه القومي عن حركة التيار الوطني القومي الذي انبثق مع ثورة يوليو 1952 بزعامة "جمال عبد الناصر"، لم تترك للفنانة"، "وردة الجزائرية" الفرصة تمر دون أن تستغلها لإسماع صوت الثورة الجزائرية من خلال صوتها الجديد الذي انجذب إليه الجمهور العربي لأنه اكتشف فيه شيئا جديدا غير مألوف في الساحة الفنية العربية، ومن خلال صوتها المتميز هذا وصل صوت الثورة إلى جميع البلدان العربية، وكان طموحها الكبير أن تنتصر الثورة، ويولد "الوطن الأكبر" في شمال إفريقيا، ويرتفع العلم الجزائري فوق كل ذرة من تراب الجزائر، عاليا خفاقا•• وكان نجاح الفنانة "وردة الجزائرية" في نشيد "الوطن الأكبر" حافزا قويا لمواصلة طريقها الفني بثقة واعتزاز، عازمة على أن تكون الأغنية وسيلتها في سبيل تحقيق غايتها المجسدة في تحرير الجزائر من الإستعمار، وانتزاع الحرية والسيادة••• وإيمانا منها بمسؤوليتها النضالية إزاء وطنها المحتل وإحساسها منها بعظمة الموقف الذي تمثله الثورة التحريرية للشعب الجزائري، فقد أنذرت نفسها أن تكون رحلتها الفنية الشاقة للثورة وللجزائر، والذي يتتبع مسيرة الفنانة "وردة الجزائرية" ففي مرحلة ما قبل الإستقلال الوطني، سوف يتأكد من تعلق الفنانة بوطنها، ويكتشف مدى أهمية الرسالة التي حملتها فنانتنا الكبيرة في سبيل القضية الجزائرية وهي رسالة ثقيلة لا يحس بثقلها إلا من أوتي إحساسا قويا ووعيا كبيرا، وهو ما تميّزت به "وردة الجزائرية" رغم حداثة سنها ونقص تجربتها وهي تضع أولى خطواتها على عتبة الإبداع الفني وسط زحام كبار نجوم الغناء العربي في الخمسينيات من القرن الماضي، بحيث استطاعت أن تنقل بصوتها وغنائها معاناة المناضلين والمجاهدين من أبناء الجزائر، وهم يقاومون غطرسة المستعمر الفرنسي، ويواجهون العذاب والموت على أيدي الجلادين• ولعل أغنية "جميلة" التي غنتها الفنانة وردة أواخر الخمسينيات، خير معبّر عن انتمائها لقضية وطنها الجزائر، ففي هذه الأغنية يقف المستمع العربي على قصة تعذيب البطلة الجزائرية "جميلة بوحيرد"، هذه القصة التي أثارت انتباه الرأي العربي والعالمي، وفتحت أعين الناس في كل مكان على بشاعة الاستعمار، وأثارت استنكارا واسعا حتى داخل أوساط الفرنسيين أنفسهم، وبقدر ما كانت البطلة الثورية "جميلة بوحيرد" في قمة الصمود والتحدي، بقدر ما كانت الفنانة "وردة الجزائرية" في ذروة وطنيتها ونضالها وهي تؤدي رسالتها الجهادية من خلال أغنيتها "جميلة" التي خلدت من خلالها أروع صفحة نضالية في تاريخ الثورة الجزائرية••• وعلى الرغم من أنّ "وردة الجزائرية" قد منحت جزءا من فنها لموضوع العاطفة والوجدان في مرحلة ما قبل استقلال الجزائر، إذ أنها أدّت أشهر أغانيها ومنها رائعتها "لعبة الأيام"، إلا أنّ الجزء الأهم من رصيدها الغنائي في تلك الحقبة الزمنية، هو ما كان معبّرا عن أمجاد الثورة وعن ملاحم النضال التي سجلها الأشاوس على أرض الثورة والفداء، ومن أشهر ما غنّت الفنانة وردة في هذا الصدد أغنية "نداء الضمير" التي كتب كلماتها الشاعر الجزائري "صالح خرفي" ووضع لحنها الموسيقار "رياض السنباطي"، حيث ربطت الفنانة قصة حبها العاطفي بحب الجزائر، وتتعهد فيها ببناء عش زواجها بعد أن يتم تحرير أرض الجزائر، في الجزء الأخير من الأغنية الذي تختتمه بقولها : "سوف نبني عشنا في ظل تحرير الجزائر•••"• وفي أغنيتها "أيها الصاعدون" من كلمات الشاعر نفسه وتلحين الملحن ذاته نقف على الوجه النضالي القوي للفنانة "وردة الجزائرية"، حيث توجه تحية للصاعدين إلى الجبال الجزائرية الصامدة، لمقارعة المستعمر وتطهير الأرض من دنس الإحتلال، في صورة تؤكد التزام الفنانة بالقضية الكبرى••• القضية الجزائرية!! وعندما قررت "وردة الجزائرية" العودة إلى الساحة الغنائية سنة 1972 بعد انقطاعها مدة عشر سنوات، أي بعد مرور عقد من عمر الإستقلال الوطني، فضلت أن تكون العودة وطنية، في إشارة منها إلى أن قصتها مع حب الجزائر لم تنقطع بانقطاعها عن الغناء طوال السنوات العشر الأولى من استقلال الجزائر، فاختارت أن تكون انطلاقتها الجديدة مع اللحن والأغنية متزامنة مع ذكرى عيد الإستقلال الوطني، وأن تكون العودة القوية بعمل فني جديد يتغنّى بالجزائر وهي تحتفل بعيد النصر، عيد البشائر، فغنّت إحدى أروع أغنياتها الوطنية "أدعوك يا أملي" من كلمات الشاعر الجزائري صالح خرفي وتلحين الموسيقار "بليغ حمدي" غنّتها في عيد الإستقلال الموافق ل 05 جويلية 1972• ومثلما كانت بدايتها مع الثورة والثوار، كانت عودتها إلى الغناء من الباب نفسه، أي من باب الثورة والوطن، وظلت وفية لتربة هذا الوطن، فاتخذت من الجزائر موضوعا لرسالتها الفنية، فأخلصت في حبها ووفائها، فهل كان الوطن هو كل شيء في حياة الفنانة "وردة الجزائرية"؟!!•