شكلت المواقع الأثرية في مدينة قسنطينة قيمة فنية و حضارية استثنائية، الأمر الذي يتطلب أن توضع لها خطط لتأهيلها و تحويلها إلى منتزهات ثقافية و سياحية، و دراسة ما يوجد بها من آثار وزخارف مختلفة الأشكال حتى تكون متحفا مفتوحا للأجيال القادمة، غير أن هذه المواقع و بفعل التماطل و الإهمال ساهم في تدهورها وانهيارها مثلما هو الشأن بالنسبة للمدينة القديمة السويقة التي تحولت إلى أطلال. تعتبر المواقع الأثرية جزء من مخطط التنمية التي يجب الحفاظ عليها كتراث مادي و وجب إدخالها ضمن التحديث والتطوير العمراني كونها تشكل مصدر اعتزاز لحضارات قامت فيها و تركت آثارها إلى اليوم، وهذا من شأنه أن تعرف بالحقب التاريخية القديمة التي مرت ، فالبحث في مجال العلوم الإنسانية يقود حتما إلى معرفة تكون المجتمعات و تشكلها، و تفاعلها مع البيئة سواء كانت هذه البيئة أو المحيط ثابتا أو متغيرا، و كذلك معرفة نشاطات الإنسان المختلفة الذهنية و الفكرية و العملية،و لهذا دأب المختصون في علم الآثار أو الأركيولوحية على الاهتمام بالمواقع و المعالم الأثرية عن طريق الحفريات، و إجراء الدراسات والبحوث اللازمة، للكشف عن الحقبة التاريخية للمنطقة، والظروف البيئة والمعيشية السائدة في تلك الفترة ، و في إطار التظاهرة الثقافية التي تحتضنها قسنطينة كعاصمة للثقافة العربية، شرع الديوان الوطني لحماية الممتلكات الثقافية في إطار قسنطينة عاصمة الثقافة العربية في تهيئة هذه المواقع و بخاصة ضريح ماسينيسا و المدينة الأثرية تيديس، و التي خصصت لهما ميزانية تقدر بحوالي 500 مليار سنتيم ( 300 مليار سنتيم ل: "تيديس"، و200 مليار سنتيم لماسينيسا)، بالإضافة إلى مواقع أخرى ما زال العديد منها بدون اكتشاف، والتي تعتبر دلالة تاريخية مهمة على فترات زمنية في التاريخ الإنساني . ضريح ماسينيسا معلم اثري يبحث عن الحماية فضريح ماسينيسا الواقع ببلدية الخروب على بعد 16 كلم عن مدينة قسنطينة، فهو يعتبر من المعالم التاريخية الهامة التي تزخر بها ولاية قسنطينة، و يعود تاريخ بنائه إلى النصف الأول من القرن الثاني قبل الميلاد من طرف عمال إغريق و قرطاجيين أحضرهم ملوك نوميديا مثل ماسينيسا ، و يظهر ذلك جليا في حجارته المنحوتة بالأسلوب البنائي المعروف عن الحضارتين والذي ساد خاصة خلال الأيام الأخيرة من استقلال قرطاجة، يبلغ طول المدرج الأرضي 1.90م. يتكون من ثلاثة صفوف حجرية، غير أن معالمه ظلت مجهولة حتى بداية أشغال التصنيف و الأبحاث به سنة 1915 ، بعدها قامت الوكالة الوطنية للآثار في بداية التسعينات بإنجاز بطاقة فنية و تسييج المساحة المحيطة بالضريح و كذلك توظيف أعوان أمن بالتعاون مع بلدية الخروب لكن المتابعة لم تستمر و ظل الموقع بدون حماية ، و في سنة 2000 أعيد الحديث عن ضرورة حماية مشروع إعادة الاعتبار للضريح في شكل قرية سياحية و تعرف ب "القرية النوميدية" تكون مدعمة بمرافق حيوية مثل مسرح على الهواء الطلق، قاعة عرض و متحف، و تهيئة المساحة المحيطة بها في شكل حدائق، على أن تتماشى و الطابع الخاص بالعهد النوميدي، بيد أن المشروع أجهض بسبب صراعات داخلية . و بالنسبة لمدينة تيديس الأثرية فهي من بين المدن القريبة من سيرتا، و التي وجدت فيها لمسات الطابع البونيفي، تتربع على مساحة 42 هكتار، و هي تبعد عن مدينة كالديس الأثرية بحوالي 04 كيلومتر، شيدت هذه المدينة على مرتفع يشرف على نهر الرمال ولا زالت آثارها الفنية قائمة إلى اليوم، حيث يلاحظ الدارس لتيديس بأنها جمعت بين بقاياها الأثرية حضارات كامل العصور، عثر في هذه المدينة على تمثال لأبي الهول» le petit sphinx « مصنوع من البرونز، و يعتقد انه يعود إلى القرن السادس قبل الميلاد، أتى به التجار القرطاجيون كذلك، كما عثر على فخاريات بونيقية ومغربية يعود تاريخها إلى حوالي القرن الرابع قبل الميلاد، و قد كانت تيديس مدينة عسكرية تولت حماية ثلاث مدن و هي ( سيرتا، ميلة و سكيكدة) و كان على عادة الرومان أنه إذا أحيل أحد قوادها و عساكرها إلى التقاعد تمنح له قطعة أرضية ليستغلها مقابل بقائه في المدينة، و ما يزال قبر الحاكم الأول لمدينة تيديس و قبر ابنته موجودان إلى اليوم بالمقبرة الرومانية الموجودة بمدخل الموقع الأثري تيديس، و هو ما يؤكد على أن هذه المدينة لعبت دورا حضاريا كبيرا. غياب مختصين في ترميم الاثار زاد من تدهور الوضع وحسب ما وردنا من معلومات فإن سكان مدينة تيديس في الفترة الرومانية كان عددهم يتجاوز 10 آلاف نسمة، مما يشير أن المدينة شهدت عمرانا متطورا.، و الزائر مدينة تيديس الأثرية يقف على المقبرة الموجودة بمدخل المدينة، التي تركت بصمات أصحابها، و بخاصة قبر الحاكم الأول الذي أشير إلى أن اسمه ( كوسيوس ستيوس أورباكوس) و هي تعني"الابن المُتَحَضِّرُ"، كما كتب على شاهدهِ عبارة (ديدوس مانيبوس) و معناها "الإله الأكبر"، عاش هذا الحاكم ما يقارب 92 سنة، يقابله قبر ابنته ( سيبتا) عاشت هي الأخرى 23 سنة، و كُتِبَ على قبريهما ثلاثة حروف ( H.S.E ) و هي تعني بالعربية ( هنا تستريح إلى الأبد)، و بمدخل الموقع يقابل الزائر أضرحة جماعية تعود إلى القبائل الليبية، و عبر الطريق العام المعروف باسم ( كاردو ماكسيموس) تستقبلك المدينة بحمّاماتها و منابعها المائية و معابدها الوثنية و كنائسها تشير إلى أن أهل تيديس كانوا يولون عناية قصوى بالدين فضلا عن وجود المذابح، و وجود النقوشات و الكتابات ترسم لوحة فسيفسائية لحضارة بائدة امتدت منذ بدء التاريخ، و ربما تكون تيديس واحدة من المدن التاريخية التي اهتمت بصناعة الفخار، ذلك من خلال انتشار " أحواض" بنيت من الطين الحمراء في منطقة كانت تسمى بالحرفيين. والمتأمل في هذه المعالم الأثرية يجد أنها تتعرض إلى عدة أخطار تهدد وجودها وكيانها يوما بعد يوم، بعدما مسها التدهور و التآكل و التشقق و التصدع و أصبحت في أمس الحاجة إلى فرض الحماية و الصيانة و الترميم، وفق القانون رقم 04/98 المؤرخ في:1998/06/05 المتعلق بحماية التراث الثقافي، على اعتبار أنها ممتلكات ثقافية مصنفة، غير أن غياب اليد الفنية المتخصصة في تطبيق التكنولوجية و استخدام الأجهزة الحديثة ، التي تساهم في عملية صيانة و ترميم الآثار منعدمة تماما، كون أشكال هذه المواقع أكثر تعقيدا من حيث مادة البناء و نوع الحجارة التي بنيت بها ، كما أن الإهمال جعل هذه المواقع غير مهيأة لاستقبال الزوار، لأن يد الإنسان، كانت أشد وطأة على هذا الإرث الثقافي و الحضاري، من خلال ما سلبه لصوص الآثار، ( المهربين) ،الذين غالبا ما تعلن الجهات الأمنية عن توقيف عناصر مهربة لقطع أثرية. الثغرات القانونية وراء تأخر ترميم المدينة القديمة أما عن المدينة القديمة "السويقة" تتميز بمداخلها الأربعة ( المدخل المحاذي لجسر سيدي راشد، المدخل المحاذي للجامع الكبير باتجاه مدرسة ابن باديس ، و المدخل المحاذي لمقهى النجمة ، ثم المدخل الواقع أعلى شارع رحماني عاشور أو كما يسمونه أهل المدينة ( تحت القنطرة) ، و هي تضم العديد من الأحياء و المساجد و الزوايا والحمامات ، لكنها مع مرور السنين أصبحت تعيش وضعية كارثية جراء الإهمال الذي طالها منذ سنوات، و إن كانت بعض الأماكن فيها ما تزال تشهد حركية تجارية ، غير بعض أحياءها مسحت تماما وبقيت عبارة عن أطلال، مثلما هو الشأن بالنسبة لحي بخوش عبد السلام الذي تحول إلى أنقاض، و كان خبراء قد أكدوا أن مخطط ترميم المدينة القديمة خاطئ و لم يكن مبني على أسس علمية صحيحة. كما أن التأخر في ترميمها أثر عليها سلبا، بحيث لم يبق من حي الشهيد بخوش عبد السلام سوى بقايا جدران مهدمة، و أتربة مكدسة، و أصبح الحي خال من سكانه تقريبا ، لا يمكن لأحد دخلوه ، بعدما أصبح شبه منطقة محرمة، إذ لا يدخله إلى مغامر، فمعظم السكان رحلوا حاملين معهم ذكرياتهم التي عاشوها في هذا الحي، ماعدا بعض العائلات التي أبت الرحيل و تمسكت بالبقاء فيه، فيما أخضعت بعض البنايات الآيلة للسقوط للتثبيت بواسطة أعمدة فولاذية، و كان مشروع ترميم السويقة الذي انطلق سنة 1984 ، لم يتم تطبيقه على أرض الواقع بسبب مشاكل مالية، حيث أسندت الدراسة إلى خبراء إيطاليين، لكن التقرير الذي قدموه لم يكن كافيا لمباشرة الأشغال، فتمت الاستعانة بمكتب دراسات جزائري لم ينجح هو الآخر في مهمته بعد أن اقتصر عمله على إحصاء بسيط للبنايات ووضعيتها، ثم أعيد النظر في المشروع بالاعتماد على مخطط التوجيهي للتعمير ( بدو) لكنه لم يطبق إلى اليوم، رغم أنه تم تشكيل لجنة خاصة لهذا الغر، لكن ما قامت به اللجنة سوى إحصاء عدد البنايات الموجودة، و رغم ما أصابها من انهيار، ما تزال تقاوم إلى اليوم. و في هذا صرح عبد الوهاب زقار مدير الديوان الوطني لتسيير الممتلكات الثقافية بأن الثغرات القانونية وراء تأخر ترميم المدينة القديمة التي تشكل نسيجا معماريا، موضحا أنه في إطار التظاهرة الثقافية 2015 برمج أكثر من 87 مشروعا للترميم، لكن قلص إلى 74 مشروعا، و انطلقت الأشغال في 34 مشروعا فقط ، ضمت ( الأزقة، و 04 ساحات و هي ساحة سوق الغزل، رحبة الجمال، ساحة سي الحواس، و رحبة الصوف) ، و شملت العملية ترميم 11 مسجدا، 08 زوايا، و 06 حمامات ، بالإضافة إلى 03 فنادق تقع برحبة الجمال و ما تحويه من مساجد، بما فيها المطحنة و الدروب ( درب بن شريف، ابن الشيخ لفقون)، وكل ما هو داخل في التراث، خاصة ما تعلق بالمنازل، منها دار بحري، التي تحتوي على 10 بيوت ، تم ترميم سوى 07 بيوت فقط، و حسب مدير الديوان فإن الخطأ الذي ارتكبه المختصون ، هو أنهم باشروا عمليات الترميم دون وثائق، و كان من المفروض أن يسلم على الأقل 10 أو 15 مشروعا قبل التظاهرة الثقافية لكن العراقيل حالت دون ذلك، مؤكد أنه سوف يتم تسليم ثلث المشاريع بعد انتهاء التظاهرة ، و بالنسبة لترميم المساجد أضاف مدير الديوان الوطني لتسيير الممتلكات الثقافية أنه ابرم عقد عمل مع 20 مكتب دراسات، و 14 مجمعا، غير أن الثغرات القانونية كانت وراء التأخر، كاشفا عن المراسلة التي وجهت إلى الوزير الأول عبد المالك سلال لمنح تراخيص خاصة بترميم المساجد، حيث تعهد المتحدث بتسليم بين 05 أو 06 مساجد قبل حلول شهر رمضان.