إلاّ في هذا البلد الذي يعتدّ أهله كثيرا بأنفسهم ومنجزهم الماضوي الوحيد المعروف بثورة نوفمبر، يلتف الناس بعد الإفطار في فرصة وحيدة لا تتكرر إلاّ في شهر رمضان أمام التلفاز بعدما التفوا حول مائدة الطعام. يجلسون فرحين امتثالا للحديث الذي يحفظونه عن نبيهم الكريم حول الصائم وفرحته حين إفطاره، ويقابلون تلفاز بلدهم الذي كانوا يسمونه اليتيمة ولكن صار لها إخوة من الرضاع وبأعداد كبيرة وتسمى القنوات الخاصة وهي في القانون قنوات أجنبية تبث من الجزائر. يجلسون ليمتعوا أبصارهم ببرامج متنوعة في الاتجاه الواحد الأحد هو الترويع والعنف. برامج لا إلهام فيها من حيث أصالة الفكرة ولا التنفيذ والإبداع، فإذا كانت فكاهية فلتضحك على عقول المشاهدين وتتهكم على مستواهم بدل أن تسليهم وتنفعهم بالرسائل الفنية العميقة والسلسة من حيث الأسلوب والتعابير التقنية والمشهدية. برامج مستنسخة ومشوهة وهجينة ليس فيها إلاّ الصخب وارتفاع الأصوات والعياط والتهريج. برامج تسوق لثقافة ضحلة تقوم على الترويع بمشاهد العنف والتخويف بعد إسقاط الضحايا في شباك الكاميرات اللعينة في الخفاء، وتضحك على خوف الضحايا وتعري لحظات ضعفهم الإنساني. برامج لا هم لها إلاّ نشر ثقافة الابتذال وتغيب النقد والعقل بإحياء مشاهد استحضار الجن و العبث بالنفوس وتجذير الأفكار البالية حول الحلول و المس والشيطنة. وأما المسلسلات فكأن الدراما الجزائرية لا تزال في فترة الثمانينيات حين كانت الدراما العربية لا تتناول إلاّ قضايا الحب والزواج والمخدرات، فيسوق التلفاز الجزائري لقصص متأخرة جدا عن المجتمع والتغيرات الرهيبة الحاصلة فيه ولا يعرف إلا الصراع بين العجوزة والعروسة ومشكلة المرأة والعنف الأسري. يحدث هذا في الوقت الذي تتجرأ الدراما العربية على تناول قضايا الربيع العربي وتداعيات الثورات وعدم الاستقرار على الإنسان المصري والسوري والتونسي وبمسلسلات ذات جودة ورؤية وتنتقد حتى أداء التيار الديني وأجهزة الأمن والمخابرات ومستوى الفساد. لا يزال أداء القنوات الجزائرية الحكومية والخاصة بعيدا عن المستوى المطلوب مع أن جهودا تبذل لكنها غير كافية وظهرت في عدد قليل جدا من الأعمال هنا وهناك وتستحق كل الثناء والتشجيع لأصحابها لما لهم من كفاءة مشهودة وموهبة معروفة. إلى أن يريحنا الربّ من البرامج التافهة التي تلغي العقل والنقد وتغيب فيها المتعة الفنية و نتخلص من برامج الدجل والإثارة الممجوجة والعنف والابتذال.. إلى أن يحدث ذلك..كان الله في عونكم أيها المشاهدون وإلى رمضان آخر.. أما بعد: غاية المعرفة أن تعرف نفسك حكمة