يشاء الأجل أن يطوي كتاب حياة الطاهر بن عيشة. يشاء كما شاء مع غيره من السابقين مثلما سيشاء مع اللاحقين. عاش الطاهر تسعين حولا لم يبد فيهم سأما ولا كللا.. ليس في ذلك أي جزع أمام سُنة الحياة و قانون السماء. لن نقول كما قالت البرقية: (عن مرض عضال) فتلك كلمات لا معنى لها أمام من بلغ من العمر عتيا.. تعددت الأسباب والموت واحد، إلاّ أن العباقرة لا يموتون إلاّ ميتة واحدة حينما يرحل الجسد و يسجى.. كان لا يعبأ بالمرض ولا يعتد بالسنين..راح الصوت قبل أن تغور العينان و يجف الحلق.. فتحنا عيوننا و شبابيك الروح على جمال التعليق و أناقة التعبير وتلميح الصورة، فبعد التحقيقات الكبرى للراحل كمال بن ديصاري في التلفزيون الوحيد آنذاك، غذّى خيالنا هذا الجنوبي الكبير بتحقيقات مرجعية حول جمهوريات الاتحاد السوفييتي الإسلامية. اقتفى إذاك أثر رسل البيان و شهود الحرف العربي معمارا وهندسة واجتماعا وما فعلوه في أقاصي الدنيا بألوان الإبداع والزخارف والعلوم، وبرسالة السلام والمحبة. ولأنه سوفي، ورث شيئا من القدرة على الحديث و حسن إدارة الكلام صقلهما بتعليمه الزيتوني و ثقافته الموسوعية و بصيرته التي من حديد. قدم اسهامات إعلامية كثيرة في الصحافة والتلفزيون وفي التاريخ والحضارة والأعلام، حتى عُد بحق عميد الإعلاميين الجزائريين دون منازع و بتقدير وشهادة التيارين المعرب والفرنكفوني. انتزع احترام الجميع لتواضعه الجمّ، فالرجل لا يرد أحدا إن سأل أو استجار به في استفسار، يقدم التوضيح و الحقيقة و يزيد عليها بملح الطعام حتى تصير ذائعة بالأثر والصدى. فعل ذلك حينما تحدث عن نفسه و عن أصدقاء آخرين عرفهم من سياسيين وأدباء ومثقفين، بل لم يتردد في الاعتداد بأنه أوفى الناس اليوم وأنه اليساري الأخير في زمن الردة والخجل من الالتزام. كان علبة سوداء من الأسرار والحقائق منها الثابت ومنها المزيف ومنها المبالغ فيه، لكنه يسحر الناس حينما يكشف عنها و يكاد يجعلهم جميعا على صعيد واحد منه. هكذا هو الإعلامي والمثقف الموسوعي الطاهر بن عيشة وكغيره من أعلام الجزائر، يرحل في هدوء الكبار دون تملق أو ادعاء. أما بعد: