ظلت المرأة كبيرة بجهادها ضد الاستعمار وشغلت الدنيا بكفاحها ونضالها، وصنعت الحدث على أكثر من صعيد بمحاكمتها التاريخية، وكبيرة بزهدها. وظلت شامخة بعزوفها عن الدنيا وملذاتها، وترفعها عن الدنايا والمناصب والمكاسب. وكبُرت أكثر بالابتعاد عن الأضواء ونبذ الشهرة وتفادي الظهور.. والتزام الصمت والحياد والابتعاد عن المشاحنات وتصفية الحسابات، مما زادها تشريفا ووقارا في وقت سقط فيه الكثير في شر أقوالهم وأفعالهم، وتفرقوا شيعا وأحزابا انتصارا لهذا أو ذاك أو سعيا وراء مناصب ومكاسب أو مقايضة الثورة بالثروة.. لكنها ها هي بعد قرابة خمسين سنة من الصمت، والزهد، تعود منقلبة بمائة وثمانين درجة تعود بقوة إلى الساحة، إلى الواجهة، فتثير الذاكرة، وتستقطب الأضواء، وتشغل الدنيا. جميلة بوحيرد فخر كل الجزائريين، المرأة التي هزمت فرنسا بجهادها، المرأة التي صنعت جزءا من ملحمة معركة الجزائر، المرأة التي أسمعت صوت الجزائر لكل شعوب العالم بمحاكمتها التاريخية، المرأة الفولاذية التي لم تطأطئ رأسها، ولم ترهبها محكمة الاستعمار وهي تحكم عليها بالإعدام، ولم تخفها فوقفت منتصبة القامة رافعة رأسها في السماء مستقبلة الموت من أجل أن تحيا الجزائر، ترسل رسالة تعج بأكثر من رسالة، وتحمل أكثر من تأويل ودلالة.. جميلة بوحيرد التي كنا بسببها نفخر بجزائريتنا، ونعتد بأنفسنا، وننتشي بتاريخنا، ها هي تجعلنا نستحي من أنفسنا، ونتوارى من بعضنا من سوء ما بشرنا به، جميلة بوحيرد المرأة المجاهدة، الصابرة، الزاهدة، المنزوية عادت هذا الأسبوع وقد بلغت من الكبر عتيا برسالة تستصرخ فيها الجزائريين طالبة المعونة والمساعدة لإجراء عملية جراحية. وقع الرسالة فينا كان أكبر من وقع قنبلة هيروشيما، لم تقتلنا فحسب بل أدانتنا، وأبادتنا عن بكرة أبينا لقد أصبحنا أسوأ من اللا شيء. من كسر كبرياء.. الجزائر! لم يكن أحدا يتصور هذا المشهد الدرامي الذي يحبس الأنفاس، ولم يكن ليخطر على بال بشر، أن يأتي يوم تخرج فيه السيدة جميلة بوحبرد وما أدراك لتشتكي من الفقر والفاقة والحاجة.. فهل يعقل أن تلجأ مجاهدة كبيرة مثل جميلة بوحيرد إلى نشر طلب مساعدة للعلاج كما يفعل المحرومون والفقراء والمعدومون؟ وهل يمكن تصور هذه المجاهدة التي قهرت جنرالات الجيش الفرنسي، تنكسر إلى هذه الدرجة لتمد يدها للناس أعطوها أو منعوها؟ هل رضت حقا جميلة الكبيرة لنفسها أن تظهر على صفحات الجرائد صاغرة مسكينة مهينة، هي التي رفضت كل محاولات الإعلام الوطني والخارجي ليقدمها للناس في صورة الأبطال والأساطير؟ وهل حقا أن درجة الحاجة بلغت من السوء والخطورة أكثر مما بلغته سنون الحرب والحكم بالإعدام التي صمدت فيها بوحيرد ولم تستجد فيها أحدا، حتى تتنازل هذه المرة عن كبريائها وتطلب المساعدة وهي التي من المفروض أن خزائن الجزائر تحت إمرتها.. رسالة الدمار الشامل.. وهل يعقل أن تهمل الجزائر واحدة من أكبر رموزها الثورية، ومجاهدة كبيرة مثل جميلة بوحيرد؟ الجزائر التي يغرف منها الجميع، ويعالج على نفقتها المشاهير من كل حدب وصوب، تبخل على جميلة بطلة حرب التحرير صاحبة »القفة« المقدسة قفة الحرية والاستقلال، ولا تنفق على علاجها.. فهل يقبل بوتفليقة أن يقال عنه أنه فرط في حق كبيرة جميلات الجزائر، هو الذي لم يتأخر مرة في إنصاف كل مجاهد بمجرد أن يسمع عن حاجته إلى العلاج دون أن يطلب ذلك مهما كانت علاقته به.. وهذه للتاريخ من شيمه..؟ أنا أسأل مذبوحا من الألم، ولا أنتظر إجابة لأن الإجابة حملتها رسالة بوحيرد، وإن عجزتُ على أن أجد لها عنوانا..لأنها فعلا رسالة بدون عنوان، لأن عناوين الدنيا لا تكفي لتفي بمدلولاتها ودوافعها، ومقاصدها، أو تعبر عن قوة التدمير الشامل الذي تضمنته. جميلة تعود إلى قفتها..! إني وأخال نفسي ككل الجزائريين نبكي حظنا ونندب وضعنا، لشعورنا بالخزي والعار فقد ذكرتنا جميلة بوحيرد ونحن في نشوة الانتصار بالكرة،أننا لم نعد شيئا يذكر..فاللهم إننا نشتكي لك بثنا وحزننا وقلة حيلتنا وهواننا على أنفسنا.. عن قصد أو من دونه فإن بوحيرد فرضت نفسها على الجزائريين نظاما وشعبا كحجة عليهم لا حجة لهم.. فالرسالة القفة التي فجرتها جميلة في وجوهنا كانت بنفس الدوي الذي كانت تحدثه تفجيراتها في وجه الاستعمار الباغي..وقد تكون جميلة شعرت مرة أخرى بنفس البغي والجور والظلم من أبناء جلدتها فخصتهم ب »قفة« من »قففها«.. فكانت الحصيلة ثقيلة جدا لم تبق ولم تذر.. جميلة ظلت قصة جزائرية جميلة، ترمز إلى نضال شعب بكل فئاته، نموذج للجزائرية المناضلة المكافحة الرافضة للظلم والبغي والجور،وقدوة حسنة تقتدي بها كل نساء العالم التي يتطلعن إلى الحرية والانعتاق من أغلال الظلم والاستعباد والاحتلال.. جميلة بنضالها وكفاحها ظلت أسطورة يحكيها الجزائريون بفخر واعتزاز.. .. فمن نرثي إذن.. ومن نعزي..!؟ غير أن بوحيرد المجاهدة الزاهدة الصابرة، المنتفضة تبقى لغزا محيرا في ذاكرة الجزائريين والعالم أجمع بزهدها وصبرها ورفضها الأضواء والشهرة والمال وبرسالتها "المفخخة" التي كانت قوتها مدوية وحصيلتها كارثية دون أن يعرف مكان وضعها ولا من خطط لها في المكان والزمان والمغزى في الأجل المنظور على الأقل.. »قنبلة« بوحيرد أتت على الأخضر واليابس، فمن نرثي إذن! هل نرثي الوطن الذي لم يعد وطن الجميع واستأثر به بعض الجزائريين على حساب البعض الكثير الآخر، أو نرثي أنفسنا لأننا طمسنا كل جميل في تاريخنا وشوهنا أنفسنا وغرقنا في الفساد والملذات وأهملنا جميلة والجميلات وغيرها من أبناء الوطن وكفاءاته على مر العصور والأزمان والمكان.. أم نرثي جميلة لأنها حُرمت من شرف الشهادة التي كانت ستجنبها هذا المآل، أو لأنها لم تقدر على مواصلة الزهد في الدنيا فتفضل الموت على أن تمد يدها، أو تستجدي أحدا.. فمن نرثي إذن.. ومن نعزي ؟!