لم تكْفِ السلطات في مصر الجدران التي أقامتها داخل البلاد، والجدران التي أقامتها بينها وبين العديد من الدول العربية، لتنتقل إلى إقامة الجدران الفولاذية وتساهم في حصار الفلسطينيين وتجويعهم وتفقيرهم وتجهيلهم والتواطؤ في قتلهم.. منذ وفاة الراحل جمال عبدالناصر ما فتئت السلطات في مصر توسع الهوة بينها وبين الشعب المصري وتؤسس لنظام جديد تستأثر فيه الأقلية بالحكم والخيرات وتقصي الأغلبية من كل شيء وتمنع عنها كل خير. من الحرب إلى التحالف.. قصة سقوط وتَعَمَّقَ هذا الاتجاه أكثر منذ خرجت مصر عن الإجماع العربي ووقعت اتفاقيات السلام مع إسرائيل لتتحول من قيادة المقاومة العربية إلى قيادة التطبيع مع إسرائيل ومن ثم التطور إلى التحالف مع إسرائيل والتآمر على القضية الفلسطينية، والتحريض على التخلص من جزء من الشعب الفلسطيني سواء بالإيحاء أو بالتلميح أو بالتصريح.. وقد تجسد ذلك بشكل جلي في حرب غزة الأخيرة والدور المخزي الذي لعبته القاهرة في مآزرة إسرائيل في حربها العدوانية على الفلسطينيين في غزة، فأحكمت الإغلاق على القطاع حتى يسهل على إسرائيل إتمام جريمتها في أسرع وقت وبأقل التكاليف وإلحاق أكبر قدر من الخسائر البشرية والمادية.. ورفضت مصر مساعدة شعب يتعرض للإبادة فمنعته من الهروب من القتل الذي كان يتهدده ومنعت عنه دخول الأدوية والمساعدات، وقوافل الإغاثة التي جاءته من كل أصقاع الأرض.. القاهرة وسياسة فرق تسد لقدنجح النظام في مصر في "سياسة الجدران" التي فشلت في كل مكانوعبر الأزمنة، بعد أن أحاط نفسه بجدران عالية وتحول إلى حكم ملكي عائلي أكثر بؤسا من المملكات العتيقة. ونجحت السلطة في مصر في إطار سعيها للسيطرة على كل شيء في البلاد والتحكم في رقاب المصريين وحياتهم، في إقامة جدار بينها وبين شعبها بين النظام وبطانته وحاشيته المستفيدة من تحالفات مشبوهه، وبين مختلف الفئات الشعبية (بين أهل الشمال والصعايدة، والجنوب وعرب الصحراء)، والشرائح الاجتماعية (بين أقلية محظوظة غنية ترتبط بدوائر النظام وأغلبية ساحقة ترزح تحت نير الفقر والفاقة والحاجة والبؤس الاجتماعي)، وبين مختلف الطوائف (بين المسلمين والأقباط، وبين الشيعة والسنةوغيرها..) وبالموازاة مع تلك الجدران الداخلية العالية، عمدت مصر في إطار تحالفها الاستراتيجي مع أمريكا وإسرائيل إلى إقامة جدران خارجية بينها وبين الدول العربية والإسلامية التي ترفض أن تسير وراء ركب الاستسلام والتطبيع ومعاداة القضايا العربية الجوهرية المصيرية، وتنأى بنفسها أن تُقاد بمصر عنوان الاستسلام والهوان العربيين، فأقامت جدارا عازلا مع سوريا،وإيران وحزب الله،نعم نزلت إلى مستوى مناقرة الأحزاب المقاومة وليس الدول فحسب.. تعلو الأسوار...وتصغُر مصر وبقدر ما كانت تعلي الأسوار والجدران بقدر ما كانت مصر تصغر وتصغر، وتُقزم نفسها ودورها في المنطقة، حتى وجدت نفسها تعادي دولا عربية لأسباب تدعو إلى السخرية، بحجة أن هذه الدول تريد أن تأخذ دورها،أو لأنها هزمتها في مباراة رياضية.. فدخلت في صراع مرير مع أصغر دولة عربية لا لشيء سوى لأن هذه الدولة عرفت كيف تكبر بسياستها وتنجح في مساعيها وتحقق ما لم تحققه مصر بكل ما أوتيت من قوة وتزكية إسرائيلية ومساندة أمريكية. لقد أقامت مصر جدارا بينها وبين قطر لأن قطر الجزيرة الصغيرة ضايقت مصر الكبيرة، أم الدنيا، بنجاحها في حل الأزمة اللبنانية، وتمكين أطراف النزاع في لبنان من الجلوس حول طاولة الحوار في الدوحة والخروج منها باتفاق تاريخي حقن الدماء، وأوقف الاحتقان وحقق التوافق والمصالحة.. وراحت مصر ترشق قطر من وراء الجدار عندما اتسعت مساعي الدوحة الحميدة إلى دارفور، وفلسطين لتجهض أي مصر محاولة تكرار النجاح في لبنان بحجة أن ملفي دارفور وفلسطين من اختصاص مصر وصلاحيتها.. ولا تزال مصر تصر على تكرار نماذج الفشل التي أسست لها في مساعيها غير الحميدة لأنها وسيط غير نزيه وغير محايد، وترفض أن تترك المجال للنجاح القطري.. لقد تدرجت مصر نحو الهاوية والهوان من قيادة الرفض العربي، ثم الاستسلام والتطبيع ومن ثم التحالف مع إسرائيل ضد الفلسطينيين والتآمر على حماس وحزب الله لأنهما مازالا يتجرآن على إسرائيل في وقت اختارت فيه مصر التحالف معها.. وعلى ضوء هذا التطور لم تعد مصر مؤهلة للوساطة أو المساعي الحميدة لأنها لا تقف إلى جانب الحق ولا تقف على مسافة واحدة بين الحق والباطل بل هي منحازة إلى الباطل، إلى إسرائيل وأمريكا فكيف لها تنجح في التوفيق بين حماس وفتح أو بين المتقاتلين في دارفور..! مباراة الخروم وحديث الإفك بعد الدوحة تحول بناءو الأسوار إلى الجزائر لتشييد جدار عار نتن بالإساءات والسباب والشتائم والسقوط إلى أسفل السفالة والسافلين، وجريمة الجزائر في ذلك أنها تجرأت وفازت على مصر في تصفيات كأس العالم وأفشلت لها سيناريوهات سياسية جهنمية لمواصلة اغتصاب الحكم وتوريثه من الأب إلى الابن، ولأن روراوة رئيس اتحادية كرة القدم الجزائرية تجرأ هو الآخر، و"أهان الوريث" جمال مبارك الابن الموعود بخلافة أبيه، ورفض اعتذاراته عقب الاعتداء المبرمج على عناصر الفريق الوطني في القاهرة، ورفض مصافحته... ويكون فاجأه بالحقيقة المرة التي لم يجرؤ مصري أن يصارحه بها عندما قال له مستغربا ومستهجنا: "من تكون أنت حتى تصافحني، وبأي صفة تخاطبني.." أو هكذا نقلت عنه بعض الجرائد.. لقد شن الفتانون في مصر حملة مسعورة ضد الجزائر وأبدعوا في الإساءة ليردوا الاعتبار لرئيسهم القادم، ويقتصوا له من الجزائر نظير الصدمة التي سببها له رئيس الفاف.. وتنافسوا لنيل رضاه بالتفنن في البذاءة والسفاهة..لقد أقامت مصر جدارا مسلحا ودعمته بحقل من الحقد يمنع الاقتراب منه، ونهر من السباب تنبعث منه رائحة نتنة تردع أية محاولة لقطعه .. الجدران .. والخوف من المستقبل وتبين فيما بعد أن مصر أمعنت وأوغلت في الإساءة للجزائر وأحكمت بناء الجدار، لأنها أي الجزائر وهذا هو الأهم أسقطت لها مخططا رهيبا كانت ستضحك به على أذقان المصريين فقد أعدّت الأعراس والأفراح بالتأهل إلى نهائيات كأس العالم وتقديم جمال مبارك كعريس سيتزوج الحكم عن قريب باعتباره قائد النصر العظيم والمكسب التاريخي في تأهل مصر إلى نهائيات كأس العالم. ولاحظ الناس أن الرجل كان في كل مكان والكاميرات تتبعه، وتركز على حركاته وانفعالاته وحماسه! رغم أنه لا علاقة له بالقطاع لا كسياسي ولا كمسؤول ومع ذلك فقد كان هو الكل في الكل الراعي السامي والمسؤول المباشر والمدرب واللاعب وقائد الفريق .. وقد أحاط نفسه بالمستفيدين من النظام من السياسيين والفنانين والاعلاميين والرياضيين المقربين من السلطان.. لقد تفننت مصر في إقامة الجدران وأبدعت في ذلك لذا كان يجب أن تقيم جدارا فولاذيا يحمي أمنها القومي من أنفاق الفلسطينيين الذين كانوا يتنفسون من خلالها ويُنَفِّسونَ على المصريين بشراء سلعهم وأدويتهم..طبعا من حق مصر أن تُمضي قدما في بناء الجدران لأن ذلك من صميم سيادتها وإن كان بأوامرَ من إسرائيل وبتصميمٍ وتنفيذٍ وتمويلٍ أمريكي فمصلحة مصر من مصلحة إسرائيل، وتمويل أمريكا لبناء الجدار ستستفيد العائلة في مصر من بعض دولاراته.. الفولاذ... لإسناد جدران العار إن الجدار الفولاذي الذي تشيده "مصر" بينها وبين الفلسطينيين يدخل في صميم الأمن القومي لمصر لأنه استكمال لسياسة الجدران التي تحمي النظام من الانهيار، وتأمين لها، ذلك لأن سياسة الجدران الداخلية أصبحت بحاجة إلى جدران على الحدود تدعمها وتشد أزرها لأنها بدأت تهتز وتتشقق تحت ضغط الشارع المصري المغيب والمقصى والمحاصر وراء الأسوار.فالمقاومة ورفض الاستسلام والتطبيع من أكبر الأخطار التي تهدد بانهيار جدران العار، وهذا ما يفسر لجوء مصر إلى الفولاذ هذه المرة لعل وعسى يعصمها من الخطر ويدرأ عنها الفضيحة.. كما عصمتها الجدران الداخلية من الإرادة الشعبية ، درأت عنها الأسوار الأخرى فضائح الفشل الدولي والإقليمي وسيناريوهات استغفال المصريين..