بقلم: الأستاذ عبد الحميد عبدوس انتهى العقد الأول من الألفية الثالثة، وازدادت أوضاع الأمة العربية تدهورا وتفككا من الناحية السياسية، إذ يشكل الجدار الفولاذي الذي تبنيه مصر على حدودها الشرقية مع قطاع غزة، رمزا لهذا التفكك وهذه الردة في مسار التضامن العربي. والمحزن أن تعتبر مصر أن الخطر الحقيقي على أمنها القومي يأتي من أشقائها الفلسطينيين المحاصرين برا وبحرا وجوا في قطاع غزة وليس من الأطماع التوسعية الإسرائيلية التي رسختها آلة عسكرية ما فتئت تزداد قوة وشراسة وعجرفة، ولا تسمح لأية دولة في المنطقة أن تلحق بها في مجال التسلح العسكري أو تعديل ميزان تفوقها الإستراتيجي!. والمفارقة العجيبة أن مصر التي تحتضن مقر الجامعة العربية التي أنشئت أساسا من أجل تحقيق الوحدة العربية، هي التي تعطي المثل بتصرفها في إقامة جدار عازل على الاستهتار وعدم الاعتبار للمصالح المشتركة للأمة العربية، واتباع سياسة التجزئة والانغلاق في العصبية القطرية. والأشد إيلاما هو أن يتحول الأزهر الذي كان منارة إسلامية علمية، ومرجعا محترما، للإفتاء في المذهب السني في العالم الإسلامي إلى مجرد غطاء شرعي لتبرير تصرفات النظام السياسي المصري، وهذا دون الإساءة أو التعميم –طبعا- للعلماء الربانيين المقدرين لأمانة العلم من علماء الأزهر قديما وحديثا. ولكننا نعيش في زمن أصبح فيه علماء أزهريون من شاكلة عبد الله النجار يكفرون شعبا مسلما بكامله –هو الشعب الجزائري الذي جاهد تحت راية الله أكبر لانتزاع استقلاله- بسبب مباراة في كرة القدم بين مصر والجزائر! لقد أصدر مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر بغالبية أعضائه بيانا يؤيد فيه ما قامت به مصر بدعم )أو بأمر( من الولاياتالمتحدةالأمريكية وفرنسا ببناء جدار فولاذي على حدودها مع قطاع غزة طوله 10 كلم وعمقه يتراوح بين 20 إلى 30 م. واعتبر البيان أن بناء الجدار الفولاذي عملا »تأمر به الشريعة الإسلامية التي كفلت لكل دولة حقوقها وأمنها وكرامتها، وأن الذين يعارضون ذلك يخالفون ما أقرت به شريعة الإسلام، من أن تكون لكل دولة الحق أن تصون حقوق أبنائها، وتمنع كل عدوان على هذه الحقوق«. وكان الدكتور العلامة الشيخ يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين قد أصدر في وقت سابق على صدور بيان الأزهر، فتوى تحرم بناء الجدار، وقال فيه:»صحيح أن مصر حرة ولها حق السيادة، لكنها ليست حرة في المساعدة على قتل قومها وإخوانها وجيرانها من الفلسطينيين، لا يجوز لها هذا عربيا بحكم القومية العربية، ولا يجوز لها هذا إسلاميا بمقتضى الأخوة الإسلامية، ولا يجوز لها هذا إنسانيا بموجب الأخوة الإنسانية«. وقد أيد الشيخ القرضاوي في هذه الفتوى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، و25 عالما أزهريا من بينهم عضوان في مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر. كما أفتى العالم السعودي الشيخ يوسف بن عبد الله الأحمد عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود بحرمة إقامة الجدار الفولاذي لأنه »محرم شرعا وهو من أعظم الذنوب في الإسلام لما فيه من تولي الكافرين ضد المسلمين، ولما فيه من ظلم إخواننا المسلمين في غزة ومحاصرتهم وخذلهم«. أما المفكر المصري الكاتب الكبير فهمي هويدي فقد تساءل في مقاله المنشور في موقع »الجزيرة –نت« بتاريخ 29 ديسمبر 2009 قائلا:»إذا كان السور دفاعا عن الأمن القومي المصري، فلماذا تنهض به الولاياتالمتحدة وفرنسا وغيرها من الدول الأوروبية، ولماذا تلك الحفاوة الإسرائيلية المشهودة به، ومنذ متى كانت تلك الأطراف مشغولة بالدفاع عن أمن مصر والوطن؟«. ويكشف الأستاذ هويدي في المقال المشار إليه أعلاه بالمنطق والحجج أن الجدار الفولاذي يخدم الأمن الإسرائيلي أكثر مما يخدم الأمن القومي المصري. وللتأكيد على أهمية العلاقة بين مصر وإسرائيل تحت حكم الرئيس مبارك الذي يبذل كل جهوده لضمان انتقال السلطة إلى ابنه جمال بمباركة أمريكا وأوربا، فيورد الأستاذ هويدي تصريحا لرئيس قسم الأبحاث الأسبق في شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية عاموس جلبوع يقول فيه:»إن العلاقات مع مصر تمثل أهمية كبرى لإسرائيل، والمتابع للسياسة المصرية يلاحظ أن نظام الرئيس مبارك خرج عن طوره بسبب مباراة كرة القدم بين مصر والجزائر، حتى أصبح يهدد بقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، لكنه ينتهج سياسة مغايرة تجاه إسرائيل، فإلى جانب التزام النظام المصري الصمت عندما قمنا بحملة )الرصاص المصبوب( ضد غزة مؤخرا، فإنه وفر الأجواء لاستمرارنا في الحملة رغم سقوط المئات من الفلسطينيين، كما أنه منع أي تحرك عربي لصالح الفلسطينيين أثناء الحرب )يقصد إفشال مصر لمؤتمر القمة التي دعت إليه قطر(. وفي أحيان عدة يتم قتل جنود مصريين )بواسطة الإسرائيليين( ممن تواجدوا بالقرب من الشريط الحدودي، لكن الحكومة المصرية لم تقم بأي إجراء وهذا يدل على وجوب تحقيق إجماع داخلي حول إستراتيجية العلاقات مع مصر، وفي الوقت نفسه أن نحث جماعات الضغوط اليهودية وأصدقاءنا في الكونغرس، لعدم الضغط على النظام المصري في كل القضايا الأخرى، ويجب أن يعلم الجميع أن نظام مبارك مهم لنا، ويجب توفير الأجواء المواتية لضمان تشجيع كل الذين يسيرون على خطاه«. إن أخطر ما يهدد الأمن المصري هو أن تفقد مصر دورها واحترامها بين أشقائها، وأن تدفع بالفلسطينيين المحاصرين في غزة إلى خيار اليأس عندما تغلق في وجوههم كل منافذ الأمل!. * مدير تحرير البصائر