اللغة هي كل شيء، كذلك قلت لنفسي وأنا أقرأ مقطعا من كتاب (الأطلال أو تأملات في ثورات الإمبراطوريات) للكاتب الفرنسي (كونستانتان فرانسوا فولني Volney 1757-1820 ) الذي كان في يوم من الأيام صديقا حميما لنابليون في أثناء الثورة الفرنسية. وما أسرع ما استرجعت ما قاله الرئيس الراحل فرحات عباس في عام 1936 عن تاريخ بلاده. استنطق الصخور والأموات، لكنه، على حد تعبيره، لم يجد أمة وراء تلك الظواهر المادية والمعنوية. وهنا أدركت التأثير الذي تحدثه اللغة في نفس صاحبها، خاصة إذا ما كان من المجتثين من أصولهم لغويا، الباحثين عن موقع قدم في هذه الدنيا. وأحسب أن الرئيس فرحات عباس كان من تلك الجبلة التي راحت خلال النصف الأول من القرن العشرين تنبش زوايا التاريخ من أجل التعرف على هويتها. وسواء أأخطأ الرئيس فرحات عباس أم أصاب، فإن تأثير اللغة الفرنسية كان له الدور الأكبر في نظرته إلى نفسه وإلى تاريخ أمته ووطنه. وبالفعل، فقد لمست، شخصيا التأثير الذي أحدثته كلمات (فولني) فيه، وفي تكوينه الفكري الأول. وهل كان في مقدوره أن يفلت من ذلك التأثير وهو ينظر إلى نفسه وإلى وطنه من زاوية أكاد أقول عنها إنها زاوية فرنسية صرف؟ بل إنني لمست مثل هذا التأثير لدى أحد مناضلينا الكبار حين راح يصف المناضل الفلاني بأنه من طراز (اليعاقبة Jacobins) في الثورة الفرنسية دون أن يدري المسافة التي تفصله عن واقع الشعب الجزائري. (فولني) يخاطب الخرائب والأطلال في عز الثورة الفرنسية باحثا عن نفسه وعن أمته، وهو واجد إياها في تضاعيف لغته وفكره ولأنه يعرف إلى أين تمضي به الطريق. والرئيس فرحات عباس يقتدي به في كلمته التي زعزعزت بنية الحركة الوطنية أيامذاك، وخاصة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الذين انبروا لتبيان الحقائق الراسخة عن طريق رد الشيخ عبد الحميد بن باديس عليه. التكوين اللغوي الذي تلقاه الرئيس فرحات عباس جعله يمر عبر أنابيق معينة، هي أنابيق اللغة الفرنسية وكتابات بعض الثوار منذ عهد الثورة الفرنسية. قد أكون بعيدا عن الصواب، لكنني أشعر مع ذلك في قرارة نفسي أنه قرأ وتمعن نصوص الثورة الفرنسية بحكم أن النضال السياسي هو الذي كان شاغله الأكبر طيلة حياته. وذلك كله يدفعني إلى القول إننا في حاجة إلى تمحيص تاريخنا، وقول الحقيقة حتى وإن كانت جارحة في بعض الأحيان. فهناك فرق واضح بين من تلقى تكوينا باللغة الفرنسية في حياته خلال نشوء الحركة الوطنية، وهناك من تعلم باللغة العربية فكان أقرب من غيره من المنابع وارتوى منها، وهناك من لم يتعلم أي لغة اللهم إلا لغة الشعب التي ظلت منطوية في أعماقها على الأصالة والعراقة.