هل سيخرج من رحم الأزمة جيل يصحّح الواقع، ويرغم التاريخ على أن يقول للقادمين بعدنا: إن حكْما صهيونيا دام خمسا وستين سنة أو يزيد قليلا، أنهاه المارد العربي المسلم بعد أن فك قيوده، وحرّر فلسطين كل فلسطين، تماما كما فعل نبوخذ نصر العراقي منذ أكثر من خمسة قرون قبل الميلاد، عندما طهّر الأرض الفلسطينية مما اعتلى بعضها من نجس، قد يكون ذلك، ولكن فقط عندما تعتمد الشعوب العربية والإسلامية، إستراتيجية الممانعة الإيجابية وتمتشق المقاومة، لتجيب كل صوت علا ومازال يقول واقدساه وافلسطيناه.. لم يحتج أحد من الغرْب على وصول اليمين المتطرّف في الكيان الصهيوني إلى حكم إسرائيل، ولم يفعل أحد من العرب ما كان يجب أن يردّ به على من قال إن الفلسطينيين انتخبوا حماس المتطرّفة، ولذا يجب إبادتها مع ناخبيها بالحصار والخنق والحرب المتواصلة، ولم يسحبوا مشروعهم المهين للسلام، الذي قدّموه قبل خمس سنوات، ورماه في وجوههم ذلك العنصري الذي رفضته الحياة وعافه الموت، بل حبسوا أنفاسهم أمام حكومة الاستيطان، وهي تدير شئون حكومة الاحتلال، كيفما يريد لها أحد الأوفياء للفكر التوسّعي العنصري أن تكون، ولم يزد في عرب »الاعتدال« تطرّفُ تلك الإدارة، إلا هوانا ومحاولة التخلص من قضية الأمة، وهم الذين تاجروا فيها طويلا إلى درجة تشويهها بالانتكاسات المتعاقبة، التي ولّدت انكسارات متتالية، أدّت إلى إحباط شعبي عام، ينذر بانفجارات قادمة، قد تكون أكثر وبالا على المجتمعات العربية، من تلك التي أحدثتها فيها سياسة الحكم العربي، منذ عشرات السنين من استعادة الاستقلال. عندما يهنئ حاكم أكبر دولة عربية، كانت بوّابة لجهاد شعبها وباقي الشعوب العربية الأخرى، زعيم العنصريين ورئيس ما يسمى إسرائيل، بعيد استقلال هذه الأخيرة، وهو يوم نكبة الفلسطينيين الذين نكبت بنكبتهم الأمتان العربية والإسلامية، فإن مفهوما جديدا وصعبا للصراع، يكون قد بدأ بعيدا عن إرادة أبناء هذه الخارطة، لا شك أن العدوّ فيه تحوّل إلى صديق عزيز، وأن الشقيق أصبح عدوّا لدودا يجب اجتثاثه، ولم تعد القضية ساحة تضحيات الرسميين العرب المقدسة، بل غدت ُسلّما شرعنوه للوصول إلى الحكم والتشبّث به، ولو أدى إلى ضياع القضية وسقوط أوطان أخرى معها، بالرغم من أن حمى التسلح قد سرت في كامل دول طوائف العصر الحديث، حتى ظن البعض أن العرب مقبلون على معركة الفصل التي وعدوا بها طويلا، غير أن مواقفهم المنحازة إلى عدوّهم، أكدت أن كل ذلك الضجيج ما هو إلا تجديد لأسلحة مكدسة لا تنفع وقد اعتلاها الصدأ، وهم بذلك يصبّون ملايير الدولارات من خيرات شعوبهم، في خزائن الغرب، الذي يعيد صبّها في خزينة إسرائيل. مازال العرب الرسميون يحسنون الظن بأمريكا، ويراهنون على سلام يأتي منها، وهي التي أعلنت بصراحة ووضوح لا ُلبْس فيهما، أن أمْن الكيان الصهيوني هو أمنها، وراحوا يختلقون الأعذار لضعفهم، بالضغط على المفاوض الفلسطيني الذي رافق ثماني حكومات صهيونية ولم يتغير، حتى ُأطلِق عليه كبير المفاوضين، كي يدخل المفاوضات غير المباشرة بوعود أمريكية غير مكتوبة، من أجل عيون ميتشل، وحتى لا يقول قائل: إن هذا الدبلوماسي الأمريكي المخضرم ذا الأصل اللبناني، أفشله العرب وهو الذي نجح في كل مهامه السابقة، إنهم إنسانيون إلى حدّ أنه عزّ عليهم أن يروْه يخرج خاوي الوفاض من محادثات تضييع ما بقي من الأرض، ولو على حساب آخر قضية تجمعهم، وهي بالتأكيد آخر ما سيفرّقهم، وقد ظهر ذلك جليا عندما رفضوا بشدة، عودة الشقيقيْن الفلسطينييْن في فتح وحماس إلى بعضهما، بل راحوا يعمّقون ما بينهما من خلاف، بمناصرة الفريق الذي يصادق الصهاينة- كما صادقهم أكثرهم- على الفريق الذي يعادي هؤلاء الصهاينة ويحاربهم، وهو يعيش حصارا مشتركا قاتلا يفرضه العدو والشقيق معا، على الرغم من أن المحادثات التي يجري وراءها العرب لا تفيدهم في شيء، لأنها ليست إلا طوق نجاة لنتنياهو، المحاصر بازدياد ِحدّة الرأي العام الغربي الرافض لسلوكات إدارته، وأصبح يضغط أكثر على حكوماته، من أجل لجْم هذه الإدارة التي تتباهى بخروجها عن القانون ودلالها الهمجي، بالرغم من شذوذ الغرب الرسمي وتناقضه مع رأي شعوبه، حيث كافأ الإدارة الصهيونية عن حروبها وإصرارها على رفض السلام العادل الشامل، بقبولها عضوا في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، كما أنها- أي المفاوضات- جزء من محاولة حفظ ماء وجه الرئيس باراك أوباما، الذي يبدو أن الصهاينة يسعون إلى إذلاله أو استفزازه، كلما استطاع جلب الفلسطينيين- الذين استجابوا له خوفا أو طمعا- إلى طاولة المفاوضات، من خلال إعلانهم عن بناء مستوطنات جديدة، يضيفونها لما زرعوه كقنابل سكنية وديمغرافية، تنتظر الانفجار في القادم من المفاوضات. ظل الحكام العرب يعِدون رعاياهم بأمّ المعارك، في وقت كانوا يسلكون بهم طريقا آخر، يفوح نتانة وسوادا بالضعف أو العمالة، وقد سدّوا جميع المنافذ التي يمكن أن تأخذهم إلى شواطئ العزة والكرامة، فأضاعوا أجيالا وأجيالا دون أن يدخلوا هذه المعركة، مع علمهم أن الصهاينة يؤمنون أن السلام هو عدوّهم الرئيسيّ الأول، لأنه سيكشف عن عورات تركيبتهم البشرية والأيديولوجية غير المتجانسة بل المتضاربة، وُيظهِر تخلفهم الروحي المركّب، وُيعرّي حقيقتهم الإجرامية، ولم يعد يثيرهم – أي العرب- منظر القدس، وهي تئن من هول الأنفاق المتداخلة تحته من أجل إسقاطه، ولم تعد تستفزهم حالة المقدسيين، وهم ُيرَحّلون بعد أن ُتهدّم بيوتهم أمام أبصارهم وأعين العالم أجمع، كما لم يعد تهويد المدينة ُيحرّك فيهم نخوة العروبة والإسلام وكأنهم من أهل الثرى، فقد التحق عرب هذا الزمان، بسلالة يهود عبروا التاريخ ذات يوم، وقال فيهم القرآن الكريم قبل أكثر من أربعة عشر قرنا مرّت׃ تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى. لقد أدخل العرب أنفسهم- بجنوح مصر إلى كامب ديفد- في دائرة الصمود السلبي، الذي تراهن عليه إدارة الاحتلال الصهيونية، و التي يؤكد معظم منظريها وروادها، أنها كلما أبقت العرب في هذا الحيّز الضيّق كلما طال عمرها، وأن وتيرة القتال فيهم، كلما تحرّكت أو ارتفعت كلما كان ذلك مؤشرا على قرب زوالها، ومن هنا فإن المفاوض الفلسطيني المعزول جماهيريا، ما هو إلا ساتر بشري يحميها من ردّات الفعل الشعبية، وهي تعمل على إبقاء النسخة الأصلية للمفاوضين كما هي قبل ما يقارب العشرين عاما، من المفاوضات الاحتيالية التي التهمت بها مزيدا من الأرض، بشهادة غرْب منافق ُيعتَبر السبب الرئيسي المباشر في مأساة الفلسطينيين وخلق أكبر مشكلة عالمية تهدد السلام الدولي، كما تمدّدت على جغرافية لم تكن لتحتلها خارج تلك التمثيلية المفضوحة، التي أدى فيها النظام العربي أدوارا مخزية يستحي التاريخ أن يسجلها، كأن يقبض على أفراد مقاومين ضمن خلية تقاوم الاحتلال الصهيوني وهي كل تهمتها، ويدّعي أن أمن الدولة يتطلب ذلك. ماذا كان يقول الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، في حال الفلسطينيين لو كان حيّا، وهو الذي قال لهم حينما اجتمعوا بالجزائر، لعقد مؤتمرهم الذي أذّن لثورتهم بالانطلاق: إنني لا أطلب منكم أن تكونوا ناصريين أو بعثيين أو وحدويين أو جبهويين، ولكنني أريدكم أن تكونوا فلسطينيين وفقط، ولما ترجم الفلسطينيون ذلك القول الخالد إلى واقع عاشوه، استطاعوا أن يوازنوا بين البندقية وغصن الزيتون في معركتهم، قبل أن يسقطوا ويخرجوا من فلسطينيتهم، ويتركوا بندقيتهم لأصحاب الفخامة والجلالة والسمو، الذين حوّلوها إلى أقل من قوّة عصا لدى معاق، وسلّموا غصن زيتونهم إلى ماعز الصهاينة، فسمّمه بالقضم ورماه، جعلوه بعد ذلك مكنسة »ينشّون« بها الذباب الذي أحاط بموائد جرائمهم، فإذا ما جاء السيد جورج ميتشل- الذي أشفق عليه العرب- وجد نفسه لا يستطيع أن يقوم إلا بدور ساعي البريد، بين أمة استضعفها حكامها واستغفلوها وقصّوا لها مخالبها، وبين شتات سيربح من رحلته مزيدا من الوقت، لالتهام المزيد من الأرض، وخلق واقع يظن أنه يستحيل تغييره أو يصعب لاحقا على الأقل، وفي ظل هذه النكسة، هل تملك السلطة الفلسطينية التي فرّت من جماهيرها، وأقامت في ضيافة الحاكم العسكري الصهيوني- والتي تعتبر نسخة مصغّرة عن كل مفاسد نظام الحكم العربي- غير القبول بما تقول به واشنطن، حتى ولو تم ذلك بإخراج مسرحي فلسطيني سياسي، يؤدي فيه أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية الجدد، المطعون في شرعية مؤتمرهم الأخير دور البطولة، بإضفاء الشرعية على قبول المفاوض الفلسطيني، الجلوس إلى نظيره الصهيوني، ولو من وراء حجاب، لتحقيق المزيد من التفريط، فيما استشهد دونه الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، أم أن الشعب الفلسطيني، يجب أن يتخلص أولا من العباءة العربية الرسمية، التي لم تعد تقي من حر أو برد بعد أن احترقت من وسطها، ويحيل- ثانيا إلى التقاعد- »ثوّاره« الذين شاخوا على كراسي السلطة، بعد أن طاب لهم المقام لدى الحاكم العسكري الصهيوني فبدّلوا تبديلا، ويفضح المتآمرين عليه من أبناء جلدته، ممّن هوى بهم طمعهم وجشعهم وأنانيتهم إلى أسفل سافلين، فذلك وحده الطريق الذي يمكن أن يسترجع به- فيما أرى- حقه الذي أضاعه، وعمّق ضياعه َمنْ كانوا إخوة له ذات يوم...