وهران: وفاة المجاهدين مسلم السعيد وخالد بعطوش    رئيس الجمهورية يشرف على مراسم الاحتفال بالذكرى ال50 لتأسيس الاتحاد الوطني للفلاحين الجزائريين    إطلاق الاكتتاب لشراء أسهم أول شركة ناشئة ببورصة الجزائر في الفاتح ديسمبر    أردوغان يعد بوقوف بلاده مع فلسطين حتى يتم تحرير أراضيها    منظمة الصحة العالمية تدين الهجمات الصهيونية على مستشفى كمال عدوان في غزة    الأمم المتحدة تقيم آثار الفيضانات على النازحين في غزة    الدور الجهوي الغربي الأخير لكأس الجزائر لكرة القدم: جمعية وهران -اتحاد بلعباس في الواجهة    حوادث الطرقات: وفاة 34 شخصا وإصابة 1384 آخرين بجروح الأسبوع الماضي    شركة جزائرية تبتكر سوار أمان إلكتروني لمرافقة الحجاج والمعتمرين    اختتام زيارة التميز التكنولوجي في الصين    اعتداء مخزني على صحفي صحراوي    هيئة بوغالي تتضامن مع العراق    حشيشي يتباحث مع وفد عن شركة عُمانية    إعادة انتخاب دنيا حجّاب    حاجيات المواطن أولوية الأولويات    ندوة بمناسبة اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة    توقيف مُشعوذ إلكتروني    الشرطة توعّي من أخطار الغاز    عطّاف يستقبل عزيزي    المنظومة القضائية محصّنة بثقة الشعب    الرئيس تبون رفع سقف الطموحات عاليا لصالح المواطن    آفاق واعدة للتعاون الاقتصادي وشراكة استراتيجية فريدة قاريا    الجزائر تسير بخطوات ثابتة لتجويد التعليم    نتنياهو وغالانت في مواجهة سيف القضاء الدولي    الجزائر تدعو إلى فرض عقوبات رادعة من قبل مجلس الأمن    دروس الدعم "تجارة" تستنزف جيوب العائلات    رسميا.. رفع المنحة الدراسية لطلبة العلوم الطبية    اتفاقيات بالجملة دعما لحاملي المشاريع    استذكار أميرة الطرب العربي وردة الجزائرية    التجريدي تخصّصي والألوان عشقي    العميد يتحدى "الكاف" في اختبار كبير    الرئيس الاول للمحكمة العليا: الجميع مطالب بالتصدي لكل ما من شأنه الاستهانة بقوانين الجمهورية    المجمع العمومي لإنجاز السكك الحديدية : رفع تحدي إنجاز المشاريع الكبرى في آجالها    انخراط كل الوزارات والهيئات في تنفيذ برنامج تطوير الطاقات المتجددة    المهرجان الثقافي الدولي للكتاب والأدب والشعر بورقلة: تسليط الضوء على أدب الطفل والتحديات الرقمية الراهنة    دراجات/الاتحاد العربي: الاتحادية الجزائرية تفوز بدرع التفوق 2023    وفد طبي إيطالي في الجزائر لإجراء عمليات جراحية قلبية معقدة للاطفال    مجلة "رسالة المسجد" تنجح في تحقيق معايير اعتماد معامل التأثير والاستشهادات المرجعية العربي    كرة اليد/بطولة افريقيا للأمم-2024 /سيدات: المنتخب الوطني بكينشاسا لإعادة الاعتبار للكرة النسوية    الدورة الخامسة والأربعين لمهرجان القاهرة السينمائي : مشروع "غزة، من المسافة صفر" يفتك ثلاث جوائز    الحفل الاستذكاري لأميرة الطرب العربي : فنانون جزائريون يطربون الجمهور بأجمل ما غنّت وردة الجزائرية    اليوم الدولي لمناهضة العنف ضد المرأة: تنديد بانتهاكات المغرب ضد المرأة الصحراوية ودعوة لتطبيق الشرعية الدولية    الوادي: انتقاء عشرة أعمال للمشاركة في المسابقة الوطنية الجامعية للتنشيط على الركح    عين الدفلى: اطلاق حملة تحسيسية حول مخاطر الحمولة الزائدة لمركبات نقل البضائع    "تسيير الارشيف في قطاع الصحة والتحول الرقمي" محور أشغال ملتقى بالجزائر العاصمة    وفاق سطيف يرتقي إلى المركز الخامس    الابتلاء المفاجئ اختبار للصبر    وداع تاريخي للراحل رشيد مخلوفي في سانت إيتيان    مازة يسجل سادس أهدافه مع هيرتا برلين    باكستان والجزائر تتألقان    هلاك شخص ومصابان في حادثي مرور    سقوط طفل من الطابق الرابع لعمارة        قرعة استثنائية للحج    حادث مرور خطير بأولاد عاشور    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقدمات التحول الحضاري من غرب العالم إلى شرقه
نشر في صوت الأحرار يوم 08 - 01 - 2017

هل تموت الحضارات وتنطفئ شعلتها نهائيا؟ هناك أولا ما يدل على أنها لا تبدأ من صفر، وهناك ثانيا ما يؤكّد على أنها لا تتصاعد وتتواصل بدون اٌنفتاح يغذيها وينمي رصيدها التاريخي، وهناك ثالثا عامل آخر لا يقل أهمية وهو تولي زمام الأمور قيادات مفكرة وسياسة تتميّز بإرادة لاٌمتلاك المستقبل وتوجيه حركة التاريخ في محيطها الجيوسياسي وفي العالم، ولابد من التمييز بين الانفتاح الذكي الموجه لخدمة المصالح العليا للدولة والوطن والعمل الدائم على استقلالية القرار السياسي والاقتصادي، وبين الانبطاح، أي التفريط في مقومات السيادة والخضوع لإملاءات تجعل من الدولة بيدقا في أيدي أجنبية تستعملها كما تشاء، وأحيانا بدون مقابل، ولا ينجح أي انفتاح إلا بدولة قوية تتمسك بالحرية والعدالة وتصنع التقدم والرفاهية لكل الشعب.
غرب أروبا من ظلمات التخلف إلى قيادة الحداثة والتقدم
نأخذ بعض الأمثلة من الأزمنة الحديثة، فقد خرج غرب أوروبا من ظلام القرون الوسطى والمجادلات التافهة عمّن هو الأصل البيضة أم الدجاجة؟ وحزام العفّة Ceinture de chasteté الإجباري للنساء، وفي بريطانيا مثلا كانت المرأة مرادفا للشيطان كما وثّقته أدبيات القرون الوسطى وروايات أحد عمالقة الآداب
الإنكليزية تشالز ديكنز Ch.Dickens في إحدى روائعه بعنوان أوقات عسيرة Hard times1854.
في العقود الأولى من القرن 18 اٌنطلقت النهضة الحضارية في غرب أوروبا والولايات المتحدة، وكان محرّكها الأساسي الثورة الصناعية الكبرى التي اٌختزلت الزمان والمكان وأعطت تعريفا آخر للقوّة والثروة، ومكّنت عددا قليلا من البلدان من تحقيق تحولات اجتماعية من بينها التقليل من مساحة الأميّة والأوبئة ورفع مستوى المعيشة لنسبة من السكّان وبداية ظهور الطبقات الوسطى التي برز منها رجال الأعمال والاقتصاد النقدي ومشتلة النظام الرأسمالي كله القائم على قيمة العمل والمنافسة واٌعتبار العمل قيمة أعلى من العبادات وأعلى من الانتماء للسلالة الشريفة "النبلاء" في النظام القديم الذي سيطرت عليه الطبقة الأرستوقراط والأثرياء بالوراثة Féodals.
سبق ورافق هذه الثورة الصناعية تطور سريع في العلوم والنظريات الفلسفية والاجتماعية والتربوية في غرب أروبا والولايات المتحدة التي هي مع كندا واٌستراليا الامتداد البشري للمهاجرين الأروبيين الذين يعرفون في الولايات المتحدة بالبيض الأمريكان البروتستانت "WASP" التي أحرز فيها علم العلاقة بين الإنسان والآلة Ergonomy تقدما كبيرا بهدف رفع المردود والتقليل من العادم والاستغلال الأمثل لوقت العمل والتكيف مع آلات "ماكينات" المصنع للتقليل من التعب وحوادث العمل وبالتالي زيادة الإنتاج، والاتجاه بالتدريج للتقليل من اليد العاملة عن طريق تطوير الروبوتيةRobotism، لقد انتقلت المجتمعات الغربية خلال القرن الماضي وبداية هذا القرن من العمل اليدوي إلى المكننة ثم الروبوطية ثمّ الرقمنة واٌنتشار وسائل الاٌتصال الاجتماعي داخل البلدان وعلى مستوى العالم نتيجة التطوّر السريع لتكنولوجيات الاتصال والإعلام.
1. Kennedy: The rise and the fall of great powers economic change and military conflict from 1500 to 2000, Fontana press, London 1989.
هذه صورة إجمالية لانطلاق حضارة الغرب الأروبي الأمريكي الذي وصل في نهاية القرن الماضي إلى نشر إنجازاته ونموذجه باٌسم العولمة كما تسمى في أروبا وباٌسم الشمولية Globalisationفي الولايات المتحدة وبقية العالم الأنغلوسكسوني.
لا يكفي للتعرّف على التطور الحضاري بما فيه من إنجازات وفتوحات اكتشفت أسرار جسم الإنسان وما تحت الأرض وما فوقها وفي داخل وخارج غلافها الجوي، تمّ أغلبها في القرنين الأخيرين، لا تكفي هذه السطور للتعريف بها وهي تملأ عددا لا يحصى من الموسوعات في العلوم والفلسفات والفنون والآداب والاختراعات، توجد عينات منها في الانترنيت، نجد في تلك الفتوحات مضاعفات سلبية وأخرى إيجابية على الإنسان والطبيعة، ولكن لا يختلف اٌثنان على أنّ هذا الغرب قاد الحضارة الكونية بالأمس ويقودها لحد الآن.
إن المعاينة السابقة لا تعني التمجيد، وهي بمنأى عن تأثيرات الاستلاب Aliénation فطغيان رأس المال وشركاته المتعددة الجنسيات والعولمة وأبعادها الشمولية التي أظهرت الهوة الواسعة بين أغنياء العالم وفقرائه الذين كان أغلبهم من ضحايا الاستبداد الكولونيالي والقهر العنصري، كما أن كثيرا من الدلائل تشير إلى أن موجات الإرهاب بعضها على الأقل هي ردود فعل خاطئة، بل من صنع القوى الكبرى نفسها بقيادة الولايات المتحدة وتدخلاتها المتواصلة منذ عشرات السنين في العالم الثالث، وفي الشرق الأوسط بالخصوص.
السياسة الجزائرية: مبادئ ومواقف
وتبدو معظم بلدان العالم الإسلامي بوجه عام في وضعية اليتيم التائه، سكون على السطح وغليان في الأعماق، تستنجد بعض نخبه عند الحاجة بمسكنات من ماضي قريب أو بعيد وتفرض عليها التحولات المتسارعة التي لا تشارك في صنعها حالة من الفصام schizophrénie ترفض ما تقبل وتقبل ما ترفض في انتظار المهدي المنتظر منذ عدة قرون!
ولا بدّ من التذكير بأنّ من أسباب الانقسامات والتناحر في منطقة الشام والعراق المتفجرات بأثر رجعي التي زرعتها الكولونيالية من أشهرها إتفاقية سايكس بيكو في غياب الشعوب المعنيّة باٌعتبارها من غنائم ما بعد الحرب العالمية الأولى وسوف نرى الملامح الأخرى لما بعد التحكيم Arbitrage الثلاثي الروسي التركي الإيراني، بينما بقي التكتل الأرو أمريكي جالس بين مقعدين أمام الذكاء السياسي والخطط المحكمة للقيادة الروسية أما الشريكان الآخران تركيا – إيران فهما من المسلمين غير العرب.
ما حدث في العراق ليس مجرد تغيير نظام يوصف بالديكتاتوري، بل اقتلاع بلد من جذوره والعبث بتراثه وتحويله إلى طوائف متقاتلة، من الصعب أن يتنبأ أحد بمستقبله كشعب ودولة في الأمد المتوسط، العراق أرض خصبة بين النهرين دجلة والفرات وموارد طبيعية هائلة وماضي بعيد كانت فيه بغداد العاصمة الحضارية للعالم والقوة الأولى كما وصفها فيلسوف التاريخ أرنولد توبنبيA. Toynbee في مؤلفه الموسوعي دروس في التاريخ، وفيها تأسست أشهر أكاديمية عالمية للترجمة والعلوم باٌسم دار الحكمة قبل إثني عشرة قرنا، إن كل هذه المقومات تفقد وزنها إذا لم يكن في الحاضر ما يفعّلها وقيادة تدرك التحديات الحقيقية لعصرها.
يتساءل الكثيرون من أين جاءت القاعدة و بن لادن؟ وأين كانت تنشط؟ ومدى توظيفها في الحرب الباردة ضد السوفيات قبل 1989؟ وكيف تعجز 60 دولة بجيوشها وأساطيلها وصواريخها العابرة للقارات عن اجتثاث " الدولة"الإسلامية في العراق والشام؟ يبدو للملاحظ المحايد أن تلك القوى المتحالفة ضدها تشرف على تسييرها والتخويف بها، أكثر من إزالتها من رقعة صغيرة بين الشام ووادي الرافدين، وهذا رأي الوزير الفرنسي الأسبق ورئيس مؤسسة إسلام فرنسا J.P.Chevènement في استجواب مع صحيفة الوطن El Watan بتاريخ 28-12-2016 حيث قال بأنّ تدمير الولايات المتحدة لكلّ أركان دولة العراق "التي كان هو نفسه ضد الحرب" قد مهّدت لظهور الجهادية العالمية والصراعات الحالية بين السنّة والشيعة في عموم المنطقة العربية والإسلامية.
إذا كان الوضع في العراق أشبه بمتاهه يصعب تحليل معطياتها الداخلية ودور القوى الأجنبية، وخاصة دور واشنطن، فإنّ الوضع في سوريا لا يقلّ تعقيدا بسبب كثافة التدخّل الجهوي والدولي الذي يشرف على تسيير الإرهاب في العراق ويسانده في سوريا، ويسعى نيابة عن الشعب السوري لتغيير النظام ويستخدم معارضة اٌنحرفت عن مطالبتها بالديموقراطية، إلى أدوات في يد أنظمة تمولها وتمدّها أطراف في محيطها بالسلاح لتدمير بلادها من أجل الديموقراطية وبالنسبة لتلك الأطراف فإنه يصدق عليها المثل الشعبي المتداول في الجزائر عن الجمل الذي سخر من السنام "كربة" جمل آخر بجواره، ونسي أنه له أيضا سنام مثله، فلم تنجح أبدا ديموقراطية تستورد من الخارج أو تفرض بواسطة الدبابات والترويج الدعائي وشيطنة النظام القائم أنها تتطلب درجة من النضج تقوده إرادة سياسية مجتمعية لا تقوم على العنف والإكراه.
ولا بدّ هنا من الإشارة إلى المواقف المشرفة للسياسة والدبلوماسية الجزائرية الملتزمة -رغم الإغراءات والضغوط التي يعرفها المتابع للسياسة الخارجية للجزائر حيث يظهر بوضوح تطابق مبادئها مع مواقفها،فالجزائر ضد التدخّل الأجنبي تحت أي ذريعة وتحترم السيادة الوطنية لكلّ البلدان وتتعامل مع الدول وليس مع أي أطراف أخرى مهما كانت الأقنعة التي تلبسها وتعمل بجهد كبير لمحاربة الإرهاب بلا هوادة،وتسعى على كل الجبهات لنشر الأمن والسلم والاستقرار في جوارها القريب والبعيد، تستمد الجزائر هذه المبادئ وتطبيقاتها الفعلية في سياستها الخارجية ومجمل علاقاتها مع البلدان الأخرى من تجربتها الثورية وبيانها المؤسس في الأول من نوفمبر 1954 وحرص رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة على الوفاء لمبادئ الثورة وأهدافها.
لقد حظيت الثورة الجزائرية بتضامن واسع من الشعوب والقيادات العربية والإسلامية وكثير من البلدان الأخرى بسبب تضحيات الجزائريين من أجل الحريّة والتزام قيادات الثورة بعدم التدخّل في شؤون بلدان المنطقة، والرفض القاطع لأي تدخّل في شؤونها الداخلية ولن تنس الجزائر دولة وشعبا تعاطف الأشقاء والأصدقاء مع نضالاتها من أجل هزيمة الكولونيالية الفرنسية التي جمعت بين الشراسة والنفاق وعنوانه: حرية أخوة مساواة.
إذا صدقت النوايا، فإن الجزائر بقيادة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على اٌستعداد للمساعدة على الحوار بين أطراف النزاع في المشرق وشبه الجزيرة العربية وجوارنا الليبي كما فعلت مع دولة مالي، وها هي بصدد جمع الفرقاء الأشقاء في دولة ليبيا للعودة للسلم ونزع فتيل الصراعات التي أنهكت جميع الأطراف ولا يستفيد منها إلا تجار السلاح والصهيونية العالمية التي تجني منذ 1948 ثمار التشرذم والصراعات البينيّة وإهدار الموارد والتحالفات التي تستهدف عزل أو إضعاف الجار.
وكالعادة لن تطلب الجزائر أي مقابل سوى عودة التضامن بين الشعوب العربية مشرقا ومغربا، إذا عاد الساسة المغاربة إلى جادة الحق والصواب،فهذا النظام هو البادئ بالعدوان منذ 1963، ونترك ما قبل ذلك في وثائق التاريخ، ولن تنجح سياسات الاحتلال والضم القسري فعهد الاستيطان الكولونيالي اٌنتهى، وقد أدان مجلس الأمن في 23 ديسمير 2016 الطفل المدلّل إسرائيل واعتبر الاحتلال الاستيطاني غير مشروع، وفي هذه الإدانة عبرة لمن يعتبر، ولو كان نصيره على الضفة الأخرى من المتوسط يجند أتباعه بسخاء للمغالطة والتضليل.
عندما يستيقظ العملاق الآسيوي
في الجانب الآخر، نجد القارة الآسيوية بثقلها البشري الذي يزيد على نصف سكان العالم كله ومساحتها الشاسعة بين المحيطين الهندي والهادي هي 44.58 مليون كلم2 ، تبرز الصين التي تعود حضاريا إلى المقدمة بدون ضجيج كبير، نقول تعود لأن إمبراطورية الوسط كانت في منتصف القرن التاسع عشر قوة حضارية كبرى نتيجة لتراكم متواصل قبل حوالي أربعة قرون، شهدنا بعض معالمها القديمة والمعاصرة في زيارة لهذا البلد العملاق "من 01 إلى 06 ديسمبر 2016" تمكن هذا البلد العريق في أقل من ثلاثة عقود من التفوق اقتصاديا على الولايات المتحدة، واقتصاده يتفوق الآن مرتين على اليابان الذي كان في نهاية القرن الماضي يتفوق بثلاثة أضعاف على الصين، ومن المعروف أن الثورة الصناعية في اليابان انطلقت في منتصف القرن التاسع عشر 1870 في عهد إمبراطورية ميجي.
بالنسبة للصين ليس في الأمر معجزات وخوارق، فبالإضافة إلى اٌنجازاتها التاريخية السابقة مثل اٌختراع البارود والورق والحبر والإستراتيجية الحربية بعنوان فن الحرب، التي وضعها سون تزو خمسة قرون قبل الميلاد، وهي أساس علم النفس العسكري في العصر الحديث الذي يستهدف إضعاف معنويات العدو وهزيمته من الداخل ورفع قدرة الطرف الآخر على الصمود والثقة في الانتصار، فإن نهضتها الحالية تعود إلى إدراك قيادتها أن الإنغلاق"قصّة عصابة الأربعة بقيادة زوجة ماوتسيتونغ التي دمّرت قسما كبيرا مما يُسمّى بالثقافة الدخيلة" وأنّ ضعفها وهجمة القوى الكبرى الغربية واليابان عليها عن طريق تقسيمها إلى محميات تجارية"Comptoirs" وتنويم شعبها بالأبيوم يتطلب يقظة تستمدّ طاقتها من تعاليم كونفشيوش الحكيم وأفكار ماوتسيتونغ الثورية واٌنفتاح واسع على العالم الخارجي والاستفادة من كلّ اٌنجازاته المعرفية والتكنولوجية ومما حققته جالياتها الكبيرة من تقدّم وثروة ونفوذ من سنغفورة إلى قلب البلدان الغربية والولايات المتحدة بوجه خاص، ونشير في سياق التحوّلات الكبرى في الصين إلى أن هذا البلد تعرّض لما يشبه الربيع العربي خلال أحداث ساحة تيان آن مين سنة 1989 التي أدّت إلى فرض الغرب لعقوبات اقتصادية وعزلة سياسية ممّا دفع الصين إلى توثيق العلاقات مع روسيا وخاصة في مجال الطاقة وتأسيس معاهدة شانغاي سنة 2011 التي تجمعها مع روسيا وكازاخستان وطاجاكستان وأوزباكستان.
ومن بين التحولات الكبرى التي يشهدها العالم منذ بداية هذا القرن يقظة عملاق آخر هو روسيا الفيدرالية، بعد اٌنهيار الاٌتحاد السوفياتي وتصفيه ما ورثه من اٌمتداد جغرافي ونفوذ سياسي إيديولوجي بعد الحرب العالمية الثانية أعلن التصفية والإفلاس رئيسها الأسبق غورباتشوف وعريضة اٌتهاماته للنظام الشيوعي في كتابه البريسترويكا أو المكاشفة الذي اٌعتبره خصوم النظام السوفياتي أكبر اٌنتصار للنظام الليبرالي طيلة القرن الماضي والملاحظ أن غورباتشوف الذي يبلغ الآن 85 سنة من العمر قد إعترف في حديث مع بي بي سي البريطانية في أوائل ديسمبر 2016 أنّه اٌرتكب خطأ كبيرا في تشخيصه السابق وأن الرئيس الحالي فلاديمير بوتين يستحقّ كلّ التأييد والإعجاب.
نحن نتابع في هذه السطور أطروحتنا المتمثلة في عنوان هذا البحث وهي تحوّل مؤشرات التقدّم والقوّة والنفوذ نحو القارة الآسيوية وما تتمتّع به من ثوابت القوّة Constantes de puissance وهي كثيرة بالنسبة لروسيا الفيدرالية نذكر منها:
من الناحية التاريخية الحضارية لروسيا تاريخ عريق يعود إلى 868 عاما قبل الميلاد وفي سنة 882م تكوّنت الدولة السلافية الشرقية الموحّدة التي اٌعتنقت المسيحية وجعلت من الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية المذهب الرسمي للدولة ولم تتأثر بالغزو المغولي لروسيا بين 1237 و 1240.
وروسيا الفيدرالية هي الآن أكبر دولة مساحة على الإطلاق فهي تقترب من ضعف مساحة الصين بما يزيد على 17 مليون كم2 وبالتحديد 17.075.200 كم2 وتحتل المرتبة التاسعة من حيث عدد السكان حسب إحصاء مارس 2016 "146.6 مليون نسمة".
لروسيا الفيدرالية موقع جيوسياسي متميز إذ لها حدود مع 14 دولة ويشكل القسم الآسيوي 75%من مساحة روسيا ويعيش فيه 23% من سكانها و77% من بقية السكان من القسم الأروبي ويفصل بين القسمين سلسلة جبال أورال.
لروسيا حدود بحرية تمتد على 37653 كم من الهضبة الآسيوية إلى الولايات المتحدة والصين واليابان وحدود برية ب: 20.241كم.
الإسلام هو الديانة الثانية في روسيا بنسبة 14%من مجموع السكان وقد وصل إلى جنوب روسيا أثناء الفتوحات الإسلامية الكبرى لفارس وبيزنطا، وينتشر الإسلام بوجه خاص بين الشعوب الداغستانية والتتار وكل الشعوب الناطقة باللغة التركية وبوجه عام توجد الأغلبيات المسلمة في منطقة شمال القوقاز بين البحر الأسود وبحر القوقاز والإسلام في فيدرالية روسيا هو مزيج من التأثير العربي الفارسي التركي السلافي المتأثر بنظام التربية والتعليم الروسي. D.V.Mukhetdinov: Russian muslim culture: social reality and concept.
يسمى مجموع هذه الشعوب بدياناتها وثقافاتها ولغاتها بالحضارة الأوراسيةEurasian civilisation،ولروسيا مساهمات كبيرة في روائع الفنون والآداب العالمية نذكر منها على سبيل المثال في الآداب بوشكين PushkinوغوغولGogol وتولستوي TolstoyوداستويسكيDostoevskyوباليه البولشؤي الذي استضفناه سنة 1981 عندما كنت على رأس وزارة الثقافة والفنون الشعبية.
تعود روسيا اليوم إلى المنافسة على تصدر العالم لما تتوفر عليه من عمق استراتيجي وصناعات متطوّرة فقد تفوّقت في بداية السباق على اٌكتشاف الفضاء الخارجي بأول رائد فضاء غاغارين وتكنولوجيات الصواريخ العابرة للقارات ومحطة الفضاء بايكونور وثاني مصدر للطاقة في العالم وأساطيل تجوب البحار والمحيطات وهو من بين المصدرين الكبار للسلاح حسب مركز استوكهولمSIPRI، وقد اٌرتفع حجم صادراتها ب 37% بين 2010-2014 مقارنة بالفترة 2005-2009. وله علاقات تعاون قديمة ومتجدّدة مع الجزائر وخاصة في مختلف ميادين التكوين والتدريب قبل الاستقلال وبعده والطرف الروسي يظهر اٌستعدادا ورغبة في تطوير علاقات التعاون والصداقة مع الجزائر وفي إطار الاحترام المتبادل كما أكّد ذلك رئيس الدوما "غرفة البرلمان الأولى" في فيدرالية روسيا في زيارته للجزائر بدعوة من المجلس الشعبي الوطني بتاريخ 04 و05 نوفمبر2015.
القطب الآخر الذي تتصاعد قوته الإقتصادية والتكنولوجية ويتزايد وزنه السياسي على الساحة الدولية هو الهند يعود حضورة الحضاري إلى 2800 و 1800 قبل الميلاد في منطقة سهل الأنديس بين المحيط الهندي وجبال الهمالايا التي تسمى سقف العالم، بالإظافة إلى ثروة مائية بعدة أنهار من أهمها نهر الكانج وبراهمابوترا..التي تمتد في الأراضي الهندية شرقا وغربا.
من بين مقوّمات الصعود أو مؤهّلات القوّة: مساحة شاسعة تزيد على ثلاثة ملايين كم2 "3.287.263" وهي البلد الثاني بعد الصين من حيث عدد السكان الذي يزيد على مليار نسمة "1.293" ولها حدود بريّة وبحرية مع 14 بلدا في شبه القارة الهندية تزيد على 15 ألف كلم "15.163" كلم وللهند علاقة وثيقة بالحضارة الإسلامية بدأت في القرن الأول للهجرة منذ فتح ما وراء النهر أو ما يسمى بلاد السند وما وراء النهر في النصوص التاريخية القديمة للكتاب والرحالة المسلمين.
وكانت الهند في التاريخ الوسيط مركز تلاقي الطرق التجارية الكبرى عن طريق تجارة التوابل والحرير، وإلى جانب الأغلبية التي تدين بالهندوسية "79.8%" من السكان تمثل الديانة الإسلامية "14.2%" حسب إحصائيات 2011 إلى جانب ديانات أخرى مثل السيخية والزرادشتية التي أوشكت على الانقراض وكانت ديانة فارس "إيران الحالية" قبل الإسلام، وفي الهند الحالية 23 لغة رسمية و4000 لغة أخرى هي لهجات، غير أن لغة الدولة الرسمية هي الهندية بأبجدية خاصة لا علاقة لها بالحروف اللاتينية إلى جانب الإنكليزية.
يظهر اٌهتمام العلماء المسلمين بالهند في الدراسة العلمية الهامة التي قام بها العالم الموسوعي أبو الريحان البيروني في أواخر القرن الرابع الهجري منتصف الحادي عشر ميلادي ولد البيروني في مدينة خوارزم في جمهورية أوزباكستان الحالية، نرى أنه قد يكون من المفيد التعريف بأهم دراسة له مازالت مرجعا موثوقا للعلماء الهنود والمهتمين بماضي الهند القديمة، عنوانها تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذوله قام فيه بدراسة مسحية شاملة وموضوعية عن العقائد الشائعة في الهند وتنظيم العائلة وعادات الأكل والأعياد الهندوسية وخصائص اللغات السائدة، قد لا نبتعد عن موضوع هذه السطور، إذا أشرنا إلى أن هذا العالم الموسوعي قد سبق عصره بقرون عديدة فقد جمع بين عقلانية إيمانويل كانط 1724-1804 ومقولاته عن العقل الخالص وتجريبية ديفيد هيوم 1711-1776 التي جعلت من الحس والمشاهدة المباشرة أساس كل العلوم التطبيقية.
فقد ألف هذا العالم أكثر من 100 كتاب في الجغرافيا والفيزياء والكيمياء والفلك ومن بين آثاره العلمية المعتمدة إلى اليوم إكتشافه لكثافة المعادن مثل الحديد والزئبق واللؤلؤ...
ومن بين الشواهد على حضور الحضارة الإسلامية في الهند القلعة-القصر تاج محل الذي شيّده الإمبراطور المغولي المسلم شاه جهان تخليدا لذكرى زوجته وهو من التحف المعمارية التي جمعت بين فنون المعمار الإسلامي الذي بلغ ذروته في العصور الإيرانية والعثمانية والهندية.
وقد أكّد نائب رئيس جمهورية الهند السيد محمد حميد أنصاري الذي زار الجزائر بتاريخ 17إلى19 أكتوبر 2016 أن بلاده لا تستورد شيئا من المواد الفلاحية ولكن اٌستطلاعات بعض المؤسسات الدولية تشير إلى أن الفوارق الطبقية مازالت شاسعة وكذلك تشغيل ملايين الأطفال بأجور زهيدة فقد بقي حسب تلك المؤسسات الممهراجا في كلّ سلطته وامتيازاته وبقي الكثيرون يولدون ويموتون على الرصيف وفي العراء Intouchables.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.