يبدو أن الجهات الدولية المراهنة على استمرار الهرج والمرج في بلاد السودان الواسعة فاجأت الجميع عندما أنزلت أقوى أوراقها على طاولة اللعب، واستهدفت بشكل سافر ومباشر أكبر رأس في البلاد، وذلك عبر قرار المحكمة الجنائية الدولية استصدار مذكرة اعتقال بحق الرئيس عمر حسن البشير. أصول الأزمة الحالية بين السودان وما يوصف بالمجتمع الدولي تعود إلى الاضطرابات التي قفزت إلى سطح الأحداث منذ عام 2003 في إقليم دارفور شمال غربي البلاد.. تلك الأحداث الدامية التي تباينت التقارير والتحليلات حولها منذ ذلك الحين بين من اعتبرها نتائج عادية لتراكمات وخلافات وتناقضات قد تحدث في أي دولة تشبه السودان في تركيبته العرقية واللغوية ومشاكله السياسية، وبين من عمل جاهدا على استغلالها حيث نسج منها "قميص عثمان" وراح يبكي شعب دارفور كذبا وبهتانا ليستعطف العالم بحكوماته وشعوبه ثم يستعديه على حكومة الخرطوم. التحقيق الذي أجرته منظمة الأممالمتحدة مطلع عام 2005 استبعد تماما أن يكون النظام السوداني قد انتهج سياسة الإبادة الجماعية في إقليم دارفور، والحكومة السودانية ظلت تعلن دائما استعدادها لحل سلمي عادل مع الفصائل المتمردة في دارفور وتصر على ذلك في جميع المناسبات، لكن جهات دولية متعنتة ظلت أيضا، وبنفس الإصرار، تدعم تلك الفصائل وتضغط بها على الخرطوم وتضع من خلالها شروطا تعجيزية أدت، وما زالت تؤدي، إلى وأد أي مبادرة حقيقية للسلام والأمن والوئام والتعايش السلمي في مختلف مناطق دارفور. هذه المشكلة كانت بمثابة الشوكة في خاصرة السودان لكنه ظل صامدا واستطاع لملمة جراحه ونسيان آلامه ولو إلى حين، وتجاوز جميع العراقيل والعقبات والضغوطات والمؤامرات ووقّع اتفاقية سلام مع ما كان يعرف بالحركة الشعبية لتحرير السودان في الجنوب الذي تقطنه أغلبية غير مسلمة.. وباتفاقية نيفاشا ظنت الخرطوم أنها ستتفرغ لحل مشكلة دارفور، لكن الرياح لا تجري دائما بما تشتهي السفن. حديث طويل يدور وأسئلة تطرح من هنا وهناك وتحليلات وآراء حول الأسباب الحقيقية وراء معاناة السودان المتواصلة خلال العقود الماضية.. تلك المعاناة التي ظهرت بأكثر من صورة وفي أكثر من جهة، في الجنوب تارة وفي الغرب أخرى وفي الشرق مرة ثالثة، وكلما أطفأت الحكومات السودانية المتعاقبة نار حرب أو فتنة أو تمرد؛ ظهرت نار أخرى من جديد وظهرت وراءها دول مجاورة أو بعيدة. نفس الأحاديث الطويلة أيضا تتكرر عن سرّ ذلك الضمير الغربي الرسمي الذي ظهر نقيا نظيفا حساسا يدافع عن "المظلومين" و "المقهورين" في السودان، بينما يعيش ذلك الضمير نفسه في إجازة مفتوحة تجاه قضية فلسطين وشعبها المحاصر ونكبة وتهجير وشتات دام ستين عاما. إن إدعاءات المحكمة الجنائية الدولية والأرقام التي أعلنتها حق أريد به باطل، لأن المجازر التي حدثت والمآسي التي ما زال يشهدها إقليم دارفور لها نصيب من الحقيقة، لكن الحقيقة أيضا أن الذي يقف وراءها ما زال مجهولا، كما صار من شبه المؤكد أن هناك جهات داخلية وخارجية تسعى بكل قواها وإمكاناتها إلى زعزعة الأوضاع بشكل أكبر وأفظع حتى يختلط الحابل بالنابل وتجد الجهات المشبوهة فرصتها في التدخل بشكل أعمق والتحكم في المنطقة بشكل أفضل، وتلك سياسة صارت واضحة للعيان في أكثر من دولة عربية وغير عربية، ولا تخطئها حتى العين المجردة والنظرة العابرة. إن المسألة خطيرة وخطيرة جدا وتتجاوز الرئيس البشير والسودان لتصل خطورتها إلى جميع دول العالم العربي، حتى تلك التي تظن نفسها حليفا استراتيجيا لتلك القوى الدولية المناكفة للسودان، وحتى تلك التي تظن نفسها في مأمن من الصراعات والخلافات والتقلبات. إن الدور قد يأتي على أي دولة عربية، فقد كانت البداية من ليبيا وقصة لوكربي وتلك السنوات العجاف التي عاشتها الجماهرية تحت الحصار الجوي، وكانت المأساة العراقية في الحصار أولا ثم الغزو والحرب التي أكلت الأخضر واليابس وأعادت البلاد عقودا إلى الوراء.. ولا ندري على من يكون الدور بعد السودان. إن كثيرا من شعوبنا العربية تعاني من افتقاد الرخاء الاقتصادي وانعدام الرشد السياسي على مستوى الحكومات، وينتشر في صفوف نخبها انتهازيون ومصلحيون ونفعيون ومغفلون، ومبلغ قد لا يصل إلى مائة مليون دولار أمريكي يفعل الأفاعيل؛ فتقوم به التنظيمات والمعارضات المسلحة والمدنية في الداخل والخارج وتظهر الأجندات والمطالبات التي تحسن دول ومنظمات غربية استغلالها والولوج من خلالها.. ومائة مليون دولار مبلغ زهيد إذا قارناه بما تنفقه دولة مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية على حربي العراق وأفغانستان. تتعدد الأسباب والذرائع والحجج التي تسوقها هذه الجهة الدولية أو تلك، لكن الهدف يظل واحدا في جميع الحالات وهو العودة بنا إلى الوراء دائما إذا كنا نحقق بعض التقدم، أو إيقافنا في مكاننا وتثبيت أقدامنا على خط الفقر والتخلف والمشاكل والحساسيات العرقية والدينية والمذهبية، وهي الوصفة المناسبة التي يمكن من خلالها عودة الاستعمار القديم بوجه جديد.