مرة أخرى، تعود بعض الأطراف السياسية المحسوبة على المعارضة، وأيضا بعض الوجوه التاريخية إلى إعادة طرح ما يسمونه»استعادة الرموز التاريخية« وفي مقدمتها جبهة التحرير الوطني، فما هي خلفيات هذا التحرك في هذا الوقت بالذات، وهل للأمر علاقة بالإصلاحات السياسية وتداعياتها على المرحلة المقبلة؟ يعتقد مراقبون لتطورات الوضع السياسي، أن إعادة فتح ملف ما يسمى بالرموز التاريخية كموروث سياسي واجتماعي للجزائريين في هذه المرحلة التي تتسم بالتحضير للذكرى الخمسين للثورة المظفرة وقبلها عشية إحياء ذكرى مجازر 17 أكتوبر الأليمة، إنما يهدف إلى تحويل النقاش عن أمهات القضايا المطروحة في المجتمع وفي مقدمتها الإصلاحات السياسية التي يعول عليها كثيرا في إحداث نقلة نوعية في المسار الديمقراطي عموما والممارسة السياسية خصوصا، وذلك من باب استهداف حزب جبهة التحرير الوطني باعتباره يملك الأغلبية البرلمانية ويعتبر طرفا رئيسيا بل الأهم في المعادلة السياسية التي تبنى عليها المرحلة القادمة. ولأن النقاش حول ما يصفه البعض » استعادة جبهة التحرير الوطني« قديم وظل يتجدد في كل مناسبة تاريخية أو استحقاق هام تقبل عليه الجزائر، لم يستبعد هؤلاء المراقبون علاقة الجدل الدائر مؤخرا مع الحركية السياسية والاجتماعية التي تشهدها الجزائر ورغبة العديد من الأطراف التقليص من نفوذ الآفلان وتأثيره في مجرى الأمور، على اعتبار أن حزب جبهة التحرير الوطني بعيدا عن الحسابات »السياسوية وحتى الحزباوية«، وأيضا التاريخية يبقى القوة السياسية الأولى الأكثر تجذرا في المجتمع وتجنيدا للمواطنين، والأكثر تنظيما وانتشارا عبر ربوع الوطن، دون أن ننسى امتداداته على الصعيدين المؤسساتي والإداري، وتشعب علاقاته مع منظمات المجتمع المدني بمختلف فئاتها. وفي هذا السياق برزت مؤخرا بعض الأصوات التي تتهم حزب جبهة التحرير الوطني بمحاولة عرقلة سير الإصلاحات السياسية وبالأخص مشروع قانون الأحزاب السياسية، رغم أن منطق الأشياء يذهب عكس ذلك تماما، فالإصلاحات السياسية أقرها رئيس الجمهورية وهو وحده من حدد الجدول الزمني لتمرير الإصلاحات ومشاريع القوانين، والأكثر من هذا وذاك أن أحزاب المعارضة تدرك تمام الإدراك أن رزنامة عمل المجلس الشعبي الوطني في دورته الحالية حددتها الحكومة بالتنسيق مع مكتب المجلس وليس مع الآفلان أو أي حزب سياسي آخر. وهو ما يعني أن الأمر برمته مبني على خلفية سياسوية وليست لها علاقة بالنقاش الموضوعي الجاد، فالجزائر منذ دخولها عهد التعددية السياسية التي أقرها دستور23 فيفري 1989 تحوز على منظومة تشريعية تضبط العملية السياسية ومنها قانون الأحزاب والجمعيات السياسية، وهنا يبرز السؤال المركزي: هل كان الآفلان يعرقل تطبيق قانون الأحزاب منذ عام 1999؟. الإجابة بسيطة ولا تحتاج إلى اجتهاد، فالمعنيون أنفسهم باعتماد الأحزاب يتهمون الإدارة بعرقلة تحركاتهم ونشاطاتهم باعتبارها صاحبة الحل والعقد. أما ما يتعلق بتصريحات الأمين العام لمنظمة المجاهدين التي يقول فيها أن جبهة التحرير التاريخية انتهت عام 1962، وتقديم مجموعة من النواب لمقترح ضمن طلب لتعديل قانون المجاهد والشهيد، »استعادة« جبهة التحرير الوطني كرمز من الرموز التاريخية للجزائريين، فإنه ينبغي في البداية التأكيد أن المسألة برمتها تحمل مغالطات كبرى وتضليلا للرأي العام من خلال افتعال نقاش لا يستند على أي أساس موضوعي أو قانوني، لكنه بإمكانه تحويل الأنظار مؤقتا عن فشل هؤلاء الأطراف في إحراز تقدم سياسي أو طرح بدائل للمشاكل المطروحة بقوة والتي يتطلع إليها عموم الشعب الجزائري. فالمعروف لدى الجميع أن التحولات السياسية التي عرفتها الجزائر بعد أحداث الخامس أكتوبر 1988 وما تلاها من إقرار دستور جديد ومنظومة تشريعية جديدة أيضا، جعلت من جبهة التحرير الوطني التي كانت تضم العديد من الحساسيات السياسية والتوجهات الإيديولوجية، تتحول في إطار قانون الجمعيات آنذاك إلى حزب له برنامجه السياسي والاجتماعي والاقتصادي وفق مرجعية سياسية، اختارها مناضلوه، ويقوم على هيكل تنظيمي محدد والأكثر من هذا أنه يخضع للشروط المحددة في قانون الأحزاب، وبمعنى أدق لقد أدت التحولات المذكورة آنفا إلى نهاية عهد الحزب الدولة بصفة نهائية، كما أن مرحلة التعددية التي تعيشها الجزائر منذ عقدين، وضعت بشكل أو بآخر حدا للشرعية التاريخية كمرجعية وحيدة للوصول إلى الحكم أو ممارسة السياسة، فقد أصبحت الشرعية الدستورية بامتدادها الشعبي قاعدة أساسية في العمل السياسي والمؤسساتي. إلا أن طغيان الإرث التاريخي على المشهد السياسي الجزائري، واستعانة حزب جبهة التحرير الوطني بهذا المخزون، لا يعني بأي حال من الأحوال أن حزب جبهة التحرير الوطني يحتكر التاريخ وقيمه، أو أن مناضلي الآفلان أوصياء على ذاكرة الجزائريين، ولعل اعتماد الأحزاب السياسية المعتمدة وتلك قيد التأسيس على مرجعية أول نوفمبر كأرضية لبرامجها السياسية والاجتماعية خير دليل على أن العامل التاريخي يبقى واحدا من أهم العوامل المؤسسة للعمل السياسي في الجزائر، فيما يبقى التحدي الأكبر لحزب جبهة التحرير الوطني وغيرها من الغيورين على التاريخ والحريصين على مستقبل البلد كيف يمكن تحقيق تواصل بين الأجيال وليس الدعوة إلى إحداث قطيعة تفرضها نزوات سياسية ظرفية مصلحية.