لم يعرف قطاع التربية خلال السنوات الثلاثة الأخيرة، على الأقل، الاستقرار بسبب تزايد حدّة الاحتجاجات التي تشنها النقابات المستقلة على نطاق واسع على خلفية خلافات وصراع مصالح مع وزارة التربية الوطنية التي عادة ما تلجأ إلى انتهاج أسلوب المناورة لإجهاض الإضرابات المتتالية. وعاشت المؤسسات التربوية هذه السنة السيناريو ذاته والمشاكل ذاتها وضعت التلاميذ في قبضة حسابات ضيّقة يتحمّل مسؤوليتها الوزير بن بوزيد ومعه هذه النقابات. تعاملت وزارة التربية الوطنية، ومعها النقابات الناشطة في القطاع، بنوع من عدم المسؤولية واللامبالاة تجاه المشاكل المتراكمة منذ سنوات، إلى درجة أصبح فيها التلميذ محلّ استغلال وضحية حسابات بعيدة كل البُعد عن الأطر البيداغوجية وعن الدور الذي كان من المفترض والواجب على الوصاية وممثلي الأساتذة أن ينفردوا به، ولذلك ليس غريبا أن تخرج جمعيات أولياء التلاميذ في كل مرة وتستنكر »لعبة القط والفأر« التي أصبح لصيقة بهذا القطاع في كل دخول دراسي. وبعيدا عن الجدل القائم حول صاحب الحق في الصراع الدائر بين الوزارة والنقابات المستقلة، فإنه من غير المنطقي أن تستمر مثل هذه الأجواء المشحونة في هذا القطاع الحسّاس لسنوات متعاقبة دون أن تجد طريقها إلى الحلّ، وليس من المقبول على الإطلاق أن يبقى التلاميذ في كل مرة رهائن هذا التجاذب الذي لا صلة له أساسا بمطالب بيداغوجية أو تحسين المرفق العام للتحصيل الدراسي، وكان من الأجدر على الوزارة أن تأخذ في الحسبان مثل هذا الوضع لا أن تسارع إلى اتخاذ قرارات ردعية ارتجالية واعتماد سياسة عرجاء دفعت بالقطاع إلى الوضع الذي هو عليه الآن. ومن جانب آخر، فإن ما يؤخذ على النقابات أيضا أنها وضعت التلاميذ في موقع الطُعم في مناورتها ضد الوصاية، رغم أنه يُمكن تفهّم عدد من المطالب التي ترفعها بعض من هذه النقابات التي تمتلك الحد الأدنى من المصداقية، فالتنازلات التي حصلت عليها خلال العامين الأخيرين تحت ضغط الإضراب والحركات الاحتجاجية دفعتها، على ما يبدو، إلى طلب المزيد رغم أنها في وقت من الأوقات أعلنت رضاها على ما جاء في مضمون القانون الأساسي وكذا النظام التعويضي المعتمد من طرف الحكومة منذ العام الماضي. ويُعبّر رئيس اتحاد جمعيات أولياء التلاميذ بكثير من التحسّر عن »الوضع الحرج« الذي يعرفه قطاع التربية بسبب الخلافات الحاصلة بين الوزارة والنقابات بقوله: »لقد سئمنا من تكرّر هذا السيناريو في كل دخول مدرسي.. كان من الواجب على الطرفين أن يضعا مصالح التلاميذ فوق أية حسابات أخرى«، وبدلا من الإضراب فإن أحمد خالد يؤكد أن أحسن خيار لفضّ هذا النزاع الذي يعود إلى سنوات »هو تنظيم ندوة تجمع كل الأطراف وتخرج بحلول ناجعة وتلبّي كافة الانشغالات«. وعموما فإن الوضع الذي يتخبّط فيه قطاع التربية منذ سنوات ويدفع ثمنه التلاميذ، يعود بالأساس إلى انعدام الثقة بين مختلف الشركاء، وحتى الوزارة التي لا تتنازل في الدفاع عما ما تُسميه ب »الإصلاحات« أصبحت تلجأ إلى أسلوب الاحتواء، وفي أحيان كثيرة إلى المناورة، ولعلّ التراجع الواضح في مستوى التحصيل وما يُرافقه من تدني كبير في مستوى التلاميذ، خلافا لأرقام الوزير بن بوزيد، مردّه تفريغ المقرّر الدراسي - عبر كافة الأطوار- من مضمونه التربوي إلى درجة وصلنا فيها اليوم إلى مرحلة تهمّ فيها أرقام الناجحين في امتحانات البكالوريا وشهادة التعليم المتوسط والابتدائي أكثر من أي أمر آخر، ومن هنا يبدأ الإشكال، وعلى إثر ذلك يُمكن إدراك تزايد الانشغال وسط الأسرة التربوية بسبب ضُعف البرامج وتعقيدها كذلك. وانطلاقا من كل ما سبق التفصيل فيه يتأكد، أكثر من أي وقت سابق، بأن قطاع التربية في الجزائر يبقى مريضا، ولذلك فإن توالي الإضرابات والاحتجاجات هو نتاج طبيعي لتراكمات كثيرة تعجّ بها المدرسة الجزائرية التي تبقى بحاجة إلى فتح نقاش حقيقي. فالإصلاح الحقيقي الذي نريده لا يعني اللعب بأرقام عن تزايد حجم الهياكل وعدد المنشآت، لنقف في المقابل على تفريغ هذه المدرسة من مضمونها البيداغوجي الحقيقي ومن الدور الذي من المفترض أن تضطلع به مؤسسة من هذا الحجم والقيمة.