انتقد المحلل الاقتصادي، فارس مسدور، في حديث ل »صوت الأحرار«، الإعفاءات الضريبية التي تضمنها قانون المالية 2012، قائلا أن التحفيز يكون لمن يقدم شيئا للاقتصاد الوطني، وليس للغشاشين والمتهربين من دفع ضرائب أمتهم. وعلى صعيد آخر قال إن قانون المالية ركز كثيرا على شق اجتماعي حاول أن يحدث فيه نوعا من التوازن، لكن الشق المتعلق بتمويل المشاريع الكبرى لن يمس بشكل مباشر، ولكنه سيكون الأكثر تضررا في حال وصول الأزمة المالية العالمية إلى الجزائر، لأنه يستهلك مبالغ ضخمة، مواضيع أخرى تتصل بقانون المالية للسنة المقبلة تطرق إليها الأستاذ مسدور بإسهاب لا سيما فيما يخص التنازل عن السكنات التساهمية وغيرها من الملفات الاقتصادية. * ما تقييمكم لما جاء في مشروع قانون المالية 2012، في ظل أزمة مالية عالمية لا تزال تعصف بعديد الدول، وفي مقدمتها القوى العظمى؟ الملاحظ أننا نسير نحو عقلنة أو ترشيد نفقاتنا نتيجة إحساسنا بخطورة الأزمات التي يعيشها العالم، وهذا الذي كان يفترض أن يكون طيلة العشر سنوات الماضية التي تحسنت فيها وضعية اقتصادنا، وكنا قادرين اليوم أن يكون لدينا احتياطي صرف يفوق 200 مليار دولار لو انتهجنا سياسة الترشيد عوض الإنفاق والإسراف المبالغ فيه. * هل الجزائر في مأمن من الأزمات العالمية المختلفة، وما هو مصير المشاريع الكبرى المقررة حتى سنة 2014 بالنظر إلى كل التحولات العالمية الحاصلة؟ وهل أخذ قانون المالية الجديد بعين الاعتبار كل هذه المعطيات؟ الواقع أن قانون المالية ركّز كثيرا على شق اجتماعي حاول أن يحدث فيه نوعا من التوازن، لكن الشق المتعلق بتمويل المشاريع الكبرى لن يمس بشكل مباشر، ولكنه سيكون الأكثر تضررا لو تمسنا أزمة أوروبا بشكل أو بآخر، لأنه يستهلك مبالغ ضخمة سخرتها الدولة أحيانا بشكل رشيد، وأحيانا تعرضت لضربات قاسية من يد المفسدين، فمهما كانت ميزانيتنا رشيدة وعقلانية إلا أن يد الفاسد تخلط أوراقنا المالية.. * تضمن مشروع قانون المالية لسنة 2012 عدة إجراءات لتحقيق وثبة اقتصادية، وفي مقدمتها إعفاءات ضريبية لصالح المتعاملين الاقتصاديين، بالإضافة إلى إجراءات أخرى لمحاربة الغش الضريبي لضمان تحصيل أموال الدولة، ما رأيكم في ذلك؟ كنت أتمنى أن يكون التحفيز لمن يقدم شيئا للاقتصاد الوطني، وليس للغشاشين والمتهربين من دفع ضرائب أمتهم، هؤلاء يجب التعامل معهم بكل صرامة، أما الملتزمين بأداء واجباتهم الجبائية فهؤلاء هم الذين يجب أن يستفيدوا من الإعفاءات والتحفيزات حتى يشجعوا على خدمة اقتصاد بلدهم، فوق كل هذا وذاك لماذا لا يكون هناك تحفيز لكل من لديه مخلفات جبائية كأن نقول: من يدفع 50 بالمائة من ضرائبه المتخلفة منذ سنوات سيتم إعفاؤه من 25 بالمائة أو من 50 بالمائة الباقية، ويعطى هؤلاء فترة محدودة للضغط عليهم، أما أن نعفيهم كلية فهذا غير مقبول لأنها أموال الأمة جميعا وليس أموال من يسن هذه القوانين. * هناك من نواب المجلس الشعبي الوطني من انتقد الإعفاءات الضريبية واعتبرها تمهيدا لعفو ضريبي تحضر له الحكومة والذي يهدف إلى خدمة مصالح الباترونا وكبار المتعاملين الاقتصاديين ليزيد من ثروتهم، في الوقت الذي تبقى فيه الجبهة الاجتماعية تعاني؟ لديهم كامل الحق بل هو عين الحق، كيف أعفي أناسا يتفننون في التهرب من دفع الضرائب ومنهم من هم أعضاء في جمعيات رجال أعمال أو صناعيين أو تجار، ولا يعطون حتى القدوة الحسنة لغيرهم بل يعملون على حماية مصالحهم ويحاولون اقتحام قبة البرلمان من أجل تعزيز مكانتهم الاقتصادية ومكانة أمثالهم، واستنزاف حق الأمة، هؤلاء يجب أن يعاملوا كما يعامل الخائن خيانة عظمى، فالذي يتهرب من دفع ضرائبه يعتبر خائنا خيانة عظمى وهذا هو الذي دأبت عليه الدول المتقدمة التي تحترم نفسها وعززت هذا الفكر في عقول الصغار والكبار. * صرح رئيس المجلس الشعبي الوطني بأن 95 بالمائة من مداخلات النواب كانت في قطاع الصحة، كيف تفسرون ذلك؟ لأنه قطاع خرب، أخفق في تأدية واجبه والكل معني به، رغم كل التخصيصات المالية الضخمة التي قدمتها الدولة من خلال مختلف قوانين المالية السابقة، بل إنه ازداد تدهورا، والكل يدرك تماما أن هذا القطاع مريض جدا ووجب إعادة النظر فيه جذريا، وإني أرى الحل في خوصصة تسييره، فلم يعد من الممكن اعتماد مسيرين عجزوا لعدة عقود عن الارتقاء به على مستويات متطورة، الجانب الثاني أرى أن الشراكة في قطاع الصحة قد تحدث نقلة نوعية، الشراكة بين القطاع الخاص والقطاع العام، الشراكة بين القطاع العام والأجانب، فعوض أن نرمي بأموال الشعب لتضيع بين أيدي أناس لا يدركون حجم الضرر الذي يتسببون فيه لمجتمعهم لا بأس أن نحضر الأجانب نتعلم منهم كيف نسير مستشفياتنا، فالتجارب العالمية موجودة وأثبتت نجاحا كبيرا، فالنموذج السعودي شاهد على ذلك، والنموذج الأردني، والتونسي، والإماراتي، وغيرها من التجارب الرائدة في إقامة شراكات حقيقة نتعلم من الدول المتقدمة كيف نطور قطاعنا الصحي، ثم قد أفاجئكم إن قلت أنا ضد القطاع الخاص الطبي الذي أحدث ضررا كبيرا بالمجتمع حيث أن أطباء يستغلون المستشفى العمومي لإغناء المستشفيات والعيادات الخاصة والكل يعلم أن عددا كبيرا من الأطباء يشتغلون نصف وقتهم الحقيقي في المستشفيات العمومية والباقي يقضونه في عياداتهم الخاصة أو لدى القطاع الخاص، وهنا نرى لماذا كانت تدخلات النواب مركزة على القطاع المريض في الجزائر وهو القطاع الصحي، شفاه الله... * سجل مشروع القانون عجزا في الخزينة بالنظر إلى ارتفاع نفقات التسيير الموجهة أساسا لتغطية نفقات الزيادات في الأجور ودفع مستحقات التعويض بالأثر الرجعي لعمال الوظيف العمومي، كيف تفسرون ذلك؟ العجز ناجم عن هذه الملفات الخاصة بالتسويات بالأثر الرجعي من جهة، وأننا مازلنا نستعمل سعرا مرجعيا للبترول لا يتوافق ومتوسط سعر البرميل الذي ارتفع كثيرا في السنوات الأخيرة، ناهيك عن أثر التضخم، لكن لا بد أن نسجل أيضا ارتفاع ميزانية الداخلية والدفاع الوطني. * كيف يمكن التحكم في الاعتمادات المخصصة للاستيراد والتي ما فتئت ترتفع كل سنة؟ لأن اقتصادنا لا ينتج إلا البترول الخام لم نفعل شيئا يجعل اقتصادنا اقتصادا قويا خارج قطاع المحروقات، ولأننا رفعنا شعارات لم نتمكن من تحقيقها خاصة فيما يتعلق بإحلال الواردات، مازلنا نستورد غذاءنا ودواءنا وقطع غيارنا من الخارج، مازال اقتصادا تابعا متخلفا رغم تحسن وضعية إيراداتنا واحتياطاتنا، اقتصادنا للأسف اقتصاد ريعي، اقتصاد يعكس فسادا كبيرا ينخر في حسده يجعله عاجزا عن التطور، إننا ضعاف بكل ما تحمل الكلمة من معنى... *تم اعتماد السعر المرجعي للبترول ب 37 دولار والعمل وفق نسبة تضخم. إلى مدى يمكن اعتماد هذه المؤشرات لتقييم حجم الاعتمادات المالية؟ هنالك من يرى بأن وضع هامش كبير بين السعر الحقيقي والمرجعي للبرميل في ميزانيتنا يعتبر أمرا عقلانيا ورشيدا، والواقع أن الأمر يعكس ضعفنا في الدراسات الإحصائية والقياسية التنبئية، لأننا نحضر ميزانيتنا بأساليب كلاسيكية لا ترقى لحجم الاقتصاد الوطني، وكان يفترض أن نرسل خبراءنا في المالية ليتكونوا تكوينا مكثفا في تقنيات التنبؤ وأن نستخدمها حقا في اقتصادنا، وأيضا في دراسات الاقتصاد القياسي -الكمي الرياضي- لنطبقها فعلا، فتصبح ميزانيتنا تسير بنماذج رياضية دقيقة أو قريبة من الدقة تغنينا عن سياسة الترقيع التي أتعبت اقتصادنا وجعلتنا نرتكب أخطاء فادحة ونحن نخطط لميزانيتنا ونحتاج دائما لميزانية تكميلية.. إنها مهزلة بصراحة. *قررت الحكومة التراجع عن القرار الذي اتخذ في قانون المالية التكميلي لسنة 2011 والمتعلق بالتنازل عن السكنات التي تمنحها الدولة وتم تحديد مدة 10 سنوات للجوء إلى التنازل. إلى أي مدى يمكن لهذا الإجراء أن يساهم في محاربة المضاربة في سوق العقار، وما هي الإستراتيجية الأنجع الواجب إتباعها لمواجهة مشكل السكن في الجزائر؟ الأصل أن لا يتم التنازل عن السكنات التي تبنيها الدولة، وأن لا يكون هناك أي إمكانية لبيعها حتى نتجنب المضاربة في السكنات التي جعلت أسعارها ترتفع بشكل رهيب خلال السنوات الأخيرة، وأن تصدر قوانين صارمة تمنع وتصد أي محاولة للتنازل عن مسكن -مثل بيع المفتاح- بل يصل الأمر إلى حد السجن والطرد من المسكن واسترجاعه وتحويله لمن هو في أمس الحاجة إليه، وأن تكون الشبكة الوطنية الالكترونية للمستفيدين من السكن متوفرة وفعالة على مستوى كل الهيئات المحلية وحتى شبكة تربط مكاتب التوثيق بعضها ببعض مع الإدارة، وأن تكون الإجراءات الرادعة منصوص عليها في عقود الوكالات العقارية لتسيير السكن، حتى بالنسبة للسكن التساهمي يطبق نفس الشيء وأن يمنع الناس من بيعها تحت أي سبب، وإلا فإن مشكلة السكن لن تحل في بلادنا أبدا. *هل من الطبيعي الذهاب في كل مرة إلى قانون مالية تكميلي بالرغم من كل الأموال الطائلة التي ترصد لتسيير مختلف القطاعات، ما هو تفسيركم لذلك وهل من الممكن التحكم في ذلك مستقبلا؟ التفسير الوحيد أننا ضعاف في التخطيط وأن اللجوء إلى الميزانيات التكميلية في كل مرة دليل على أننا مازلنا متخلفين عن ركب العلم والتطورات التي حصلت في مجال استخدام المعلومات وأنظمة الحاسوب، خاصة في النماذج الإحصائية والدراسات التنبئية والقياسية، فإذا أردنا أن نصلح ما أفسدنا علينا أن نترك أمر التخطيط لميزانياتنا للخبراء الحقيقيين في الاقتصاد والاقتصاد القياسي والإحصائي، عندها لن نحتاج إلى ميزانيات تكميلية، ثم يجب أن تكون لدينا شبكة إلكترونية وطنية للمعلومات الإحصائية من البنك المركزي إلى كل القطاعات الاقتصاد في البلد وحتى الإدارات المركزية والمحلية، وإلا فإننا سنظل نرقع ونرقع حتى نخرب اقتصادنا المتخلف بسببنا لأننا ضعاف جدا يف مجال التخطيط.